تونس المكريّة: سؤال من يملك الوطنيّة
محمد المولدي الداودي
الحديث عن “الوطنيّة” واستدعاء هذا المشترك الشعبي في الخطاب السياسي وفي مقام المزايدة السياسية يعيد طرح السؤال بعيدا عن حجاجيات السياسيين وجدل المتخالفين في الأحزاب والأهواء. وقد أثارت كثير من البرامج التلفزيّة التي نشاهدها اليوم كثيرا من علامات التناقض في مستوى الخطاب وفي مستوى المواقف. مقدّمو البرامج وكذلك الضيوف هم أنفسهم فما الذي تغيّر؟ وأين هذه الرّوح الوطنيّة العالية في زمن الترويكا؟
لم يتغيّر الوطن ولم يتغيّر الشعب سوى قليل ممن توفاهم الله وقليل ممن قدّر لهم الله الحياة ولكن تحوّلا أصاب المشهد السياسي فغيّر في علاماته وألوانه فتغّيّر الخطاب وهذا أسوأ ما في الشعار الوطني المزيّف.
أذكر أنّني أثرت نقاشا مع أحد الأصدقاء بعد انتخابات 2014 وكنت أعرفه مقاتلا شرسا للترويكا يستجمع كلّ عبارات السّباب ويلقيها بين أيدينا وفي مجالسنا وفي المقاهي وفي كلّ مقام نحن فيه ويردّد في ملل كلّ ما سمعه في القنوات التلفزيّة ولكنّه بعيد انتخابات 2014 تغيّر مدلول خطابه وصار على نقيض ما كان يدّعي ويرى أنّ الوطن يحتاج منّا تضحية ولا سبيل لإغراقه بالاحتجاجات والمطلبيّة وكنت أسمع منه عجبا فسألته وقد احتدّ بيننا النقاش “يا سيدي ما كان هذا قولك زمن الترويكا يوم أرهقتها الاحتجاجات والمطلبيّة أكانت تونس في ذلك الزّمان بلدا “مكريّا” لا يستحق منّا الرحمة”. فكان جوابه وجيزا ولكنّه يجمل في بلاغة واضحة ما شهدناه في تلك المرحلة من تاريخ تونس وما نشهده اليوم في حكومة السيّد يوسف الشّاهد.
قال صديقي جوابا عن سؤال أنكرت فيه فعله يوما ثمّ قوله في ذلك اليوم “نعم تونس كانت مكريّة”.
هذه هي حدود رؤيتهم الوطنيّة فما أضيقها.
ما قاله الصديق نسمعه اليوم على ألسنة الأخ عبيد البريكي وقد أصبح وزيرا فعطّل “الماكينة” ودعا إلى الهدنة الاجتماعيّة واستعار خطابا حكوميّا لم يألفه لسانه في زمن لم يكن بعيدا وهذا ما يقوله كثير ممن ساروا في المظاهرات أثناء تقديم مشروع ميزانيّة 2013.
لم يتغيّر الوطن ولم يتغيّر سكّان تونس وإنّما تغيّرت المواقع السياسيّة وأصبح معارضو حكم الترويكا حكّاما اليوم فتغيّر الخطاب والموقف وتغيّر الوطن من صفة “المكري” إلى صفة “الملك”.
من العسير أن تستعير عبارات ذات مدلول تجاري لتصف بها واقعا سياسيّا محوره مسألة “الوطنيّة” ولكنّ المعجم السياسي التونسي يؤكّد هذا المنحى الدلالي القائم على توسيع الحقل المعجمي لعبارة “تجارة الأوطان”.
قالها السيّد الباجي قايد السبسي ذات لقاء شعبي وأشار في نشوة خطابيّة أنّهم “هم” “الملاّكة” وأمّا الآخرون وقد يقعون تحت عبارة “نحن” غرباء و”كرّاية”.
ما يزال السلوك السياسي التونسي معلولا في مستوى الخطاب وفي مستوى الموقف لأنّه يصل المسألة الوطنيّة بمسألة الحكم وأهله وما يزال الكثير من السياسيين في تونس مستعدين لإسقاط الوطن من أجل إسقاط فصيل سياسي أختاره الشعب ليحكم.
عندما ندرك تلك المسافة الفاصلة بين الدولة والحكومة وعندما ندرك تلك المسافة الفاصلة بين مؤسسات الدولة والحزب الحاكم سندرك يقينا أنّ الوطن لا يقبل البيع أو الشرّاء ولا التملّك أو الكراء.