الأيادي البيضاء والقلوب السوداء
مصافحة جمّور للغنوشي
كلما فاجأني موقف متطرف من الجهة اليسارية تفهمت تطرف عدد من قواعد الإسلاميين في تعاملهم مع خصومهم الاستئصاليين وقارنتُ بين مستوى التسامح الذي أبداه الإسلاميون بعد كل ما تعرضوا إليه من التنكيل والتشريد هم وعائلاتهم وزوجاتهم وبناتهم وأبنائهم، كان يمكن أن يُنتجوا خطابا انتقاميا وكان يمكن في بدايات الفوضى أن يمارسوا ردود فعل انتقامية ضد أناس يعرفونهم ويعرفون عناوينهم ويعرفون تفاصيل جرائمهم.
الإسلاميون أثبتوا أنهم أصحابُ أياد بيضاء وقدرة على مغالبة نوازع الثأر والانتقام وراهنوا على وعي التونسيين في الانتصار إليهم عبر صناديق الاقتراع فخاضوا الانتخابات بروح المسؤولية وبثقة عالية في التونسيات والتونسيين ثم قبلوا بأن يشتركوا مع سواهم من التونسيين في تحمل مسؤولية إنقاذ البلاد من كل ما يتهددها من مخاطر.
يعرف الإسلاميون من كان مُنظّرا لمقاولات تجفيف الينابيع ويعرفون أيضا من كان يبرر تلك الجرائم على الدوائر الحقوقية العالمية ومن كان “يُفتى” بكونه لا وجود لمساجين سياسيين وإنما يوجد مساجين حق عام أو متسترون بالدين يريدون الوصول إلى السلطة… لم يمارس الإسلاميون نفس الممارسة الظالمة ضد خصومهم فلم ينظروا لطرد “الجراد” من حقول الهوية وينابيع مياه الحياة والمستقبل وإنما نظّروا للدولة المدنية تتسع لكل التونسيين وراجعوا مقولاتهم حول مصادر التشريع وطبيعة الدولة والمجتمع وهوية الحركة العقدية وقبلوا بكل بنود حقوق الإنسان حتى التي تتعارض مع المعاني القرآنية لا تنكرا لكلام الله وإنما إيمانا بأن أوامر الله لا تُفرض على الناس ولا يُحمل المجتمع عليها حملا وإنما تحتاج تلك الأوامر أن تتحول إلى وعي وعقيدة يتمثلها الناس تمثلا حرا مسؤولا، وهذا يحتاج تعويلا على “الزمن” بما هو وقود التاريخ ووعاءُ الثورات.
لم ينجذب الإسلاميون بعد 14 جانفي 2011 إلى دائرة الحرب الكلامية وقاموس الشتائم ـ إلا قليلا ـ وعيا منهم بأن مشروعهم الإحيائي إنما يحتاج بيئة حوارية هادئة وآمنة ويعون أيضا بأنهم قد خسروا دائما معارك “الصخب” و”السّباب”.
هل كنا بحاجة لكل هذه المقدمة لكي نعلق على بيان “الوطد” المتعلق بمصافحة أحد مناضليهم للأستاذ راشد الغنوشي؟ ـ وهو الذي اتهم الغنوشي صراحة وعلى الهواء مباشرة من إحدى القنوات التونسية عشية اغتيال شكري بلعيد اتهمه بالمسؤولية الكاملة عن الجريمة ـ الإجابة عن هذا السؤال كامنة في السؤال عن هذه البيان ذاته: هل كانت تلك المصافحة تحتاج بيانا رسميا بإمضاء أمين عام لحزب يرى نفسه مناضلا في جبهة شعبية تريد أن تحكم البلاد في المستقبل؟
إن من يُجرّمُ مصافحة أحد رموزه لشخصية سياسية أخرى لها رمزيتها في حركة كبرى، لا يُمكن الاطمئنان إليه والثقة به مستقبلا ولا يمكن أن ننتظر منه خيرا للبلاد والعباد، عباد فيهم الأصدقاء والخصوم وفيهم المنافسون والمناهضون وفيهم من هم على طرفي نقيض فكرا واعتقادا وقيما وتصورا للمستقبل وللكون والحياة.
ربما تبدو المسألة بسيطة ولكنها معبرة… إن أخطر ما يتهدد الحياة هي “القلوب السوداء” التي لا تصلح لا لسياسة الجماعات ولا لإدارة المجتمعات ولا لحماية حق الجميع في الحياة.