نور الدين الختروشي
الواقعية المبدئية كما تبدو لي، هي منطقة وسطى بين المبدئية الجذرية التي تفتح على العدم، والواقعية الرخوة التي تفتح على الانتهازية.
حماس أثبتت قدرة على الحركة الرشيقة في حقل المبدئية الواقعية التي لا تغادر أرضية الثوابت ولا تخطئ أفق المبدأ. ففي تعاطيها مع عرض ترامب قفزت على ألغام الممكن، ولم تهوي في فراغ المبدئية الصلبة.
المهمة لم تكن سهلة، والاختيار في قلب المنطقة الرمادية، حيث خطوط الضغط العالي للواجب و”عهد الدم”، والضغط الخانق للمسؤولية ومطلوب الضرورة وإكراهات الموجود الماثل (ضرورة وقف حرب الإبادة)
لعبة الحيلة والمناورة لم يترك لها عرض “ترامب المخجل” سوى هوامش ضيقة وأخاديد حادة على حواشي الفواصل.
حماس ربما كانت تعي بحكم خبرتها على موائد التفاوض أن تبحث عن مكامن الشيطان في التفاصيل وعلى هوامشه تمكنت بنباهة حكيم من التقاط الجوهري في العرض الأمريكي، وهو إيقاف حرب الإبادة وإعادة الإعمار كدالة واقعية ملحة وحيوية وكان المقابل في عرض ترامب هو استسلام حماس ونهاية المقاومة.
التقطت حماس أن مطلوب الصهاينة والأمريكيين هو التخلص من [حماس الحاكمة] في غزة ما بعد الحرب ، فاستعادة حماس لحكم غزة احتمال و “وارد مرعب” للكيان، لأنه يعني ببساطة أن حماس لم تنتصر في ملحمة الطوفان فقط، بل خرجت بقابلية لتطور حجمها وحضورها وفاعليتها السياسية والعسكرية الى ضعف أضعاف ما كانت عليه قبل الطوفان.
.
مافات مراكز التوجيه في البيت الأبيض وتل أبيب أن حماس ليست مهوسة بموضوع الحكم إلا بما لا يعطل المقاومة، وان بعدها عن الحكم هو خلاص لها من عبء ومسؤولية إدارة الشأن العام لتتفرغ لإعادة إنتاج شروط جديده للمقاومة في غزة وعالم و”إقليم ما بعد الطوفان”
حماس وافقت على العناوين وقفزت على فاصل إنهاء المقاومة لأنه تعلم انه مزايدة بائسة لتمرير قبول نهاية حرب أصبحت عبئا على الجميع، فلا ينقص الصهاينة الذكاء لينتبهوا أن المقاومة لا تموت فهي فكرة قبل أن تكون حالة. والمحتل يعرف أن المقاومة لا تزول ما دام محتلا.
حماس قدمت لها إدارة ترامب عرضا للرفض وليس للقبول، أو على الأقل فريق نتنياهو كان يعتقد في ذلك.
.
فكانت الصدمة التي أسعدت نرجسية ترامب، وأهانت دهاء الصهاينة ، ولم تخسر حماس شيئا يذكر بل أنها سجلت دوليا موعدا فارقا مع صداع ترميم الصورة الذي واكب مسيرة حماس بحكم مرجعيتها الأيديولوجية وسهولة بل و”قابلية” تسويقها على أنها مجرد “عصابة إرهاب أصولية”
هذا المكسب الاستراتيجي في حقل الصورة السياسية لحماس ستكون له أثارا رمزية واستراتيجي عميقة في رسم مستقبل القضية الفلسطينية. فالمقاومة في جولاتها القادمة لن يكون من السهل على أدوات الدعاية الصهيونية تسويقها على أنها مجموعه إرهابية عطشى لسفك الدماء، فقد اسقط الطوفان هذه السردية المركزية في إستراتيجيات الدعاية الصهيونية لدى الرأي العام الدولي واحتضن المجتمع المدني العالمي حماس بوصفها حركة تحرر وطني تمارس عنفا دفاعيا مشروعا أخلاقا وعرفا وقانونا.
.
جاءت استجابة حماس للعرض الأمريكي لتخترق به الحيز الرسمي الدولي حيث تعمقت القناعة ادى غالبية ساحقة من الدول في الشرق والغرب ان حماس ليست مجرد فصيل عسكري مقاوم بل مرجعية سياسية جدية في المشهد الفلسطيني يمكن البناء معها في أفاق البحث عن حلول للقضية الفلسطينية في المدى القريب والمتوسط على الأقل .
ملخص صيغة بيان حماس يقول نقبل المبادرة بسرور وسعادة وامتنان لصاحبها… وتبعا لرغبته النبيلة في إنهاء الحرب وإعادة الإعمار نستجيب نحن بنبل المحاربين لمطلب اطلاق سراح الأسرى أحياء وأمواتا بشروط الراعي ترامب (هنا طعن نتنياهو في مقتل ) وباقي المبادرة للتفاوض المفتوح على العربي والإسلامي والفلسطيني..
.
عرض ترامب المدعوم دوليا وإقليميا احتوى في بنوده على المفيد والمخجل والمضحك.
.
تمكنت الحاسة السياسية لحماس وبنباهة حكيم من التقاط المفيد، بدالة المصلحة الوطنية الفلسطينية، وتجاهل المهين، وتغافل المضحك.
.
ما نلتقطه من السابق يتصل بفلسفة المبدئية الواقعية التي وجهت موقف حماس من العرض الأمريكي وقدرتها المذهلة في تجاوز المبدئية الصلبة القاتلة والواقعية الرخوة المهينة وتركيزها على الفاصل والهامش لفتح أفق للثابت والاستراتيجي من بوابة جدل لطيف بين القيمة والمصلحة..