الخميس 13 مارس 2025
نور الدين الغيلوفي
نور الدين الغيلوفي

لو أنّهم تعلّموا الشكّ لأنصفوا

نور الدين الغيلوفي

(والعوامّ أقلُّ شكوكًا من الخواصّ، لأنّهم لا يتوقّفون في التصديق والتكذيب ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلّا الإقدام على التّصديق المجرّد، أو على التكذيب المجرّد)
الجاحظ/ كتاب الحيوان.

1. موقفك أنت حرّ فيه ولا يملك أحد أن يمنعك موقفا تقفه مهما كنت مُغرِبًا فيه أو مغاليًا. غير أنّ المواقف ينبغي أن تستند، عند بنائها، إلى التثبّت لتكون أقرب إلى النزاهة وألصق بالصدق، إذا كان الأمر متعلّقا بوقائع اختلفت رواياتها وتنوّعت زوايا النظر إليها.
والمواقف إن هي إلّا أحكام ينتهي إليها أصحابها. ومن كان حريصا على الحقيقة تثبّتَ ولم يتعجّل الحكم. وليس من العقل إصدارُك الحكمَ لحظةَ تلقّيك الخبرَ كأنّك أنت فاعل الواقعة أو كأنّك تبحث لك عن سند تقيم عليه موقفَك، وموقفُك جاهزٌ سلفًا.
هذا في مطلق الأحوال، فما ظنّك إذا كان الأمر ملتبسا وكانت الأخبار متضاربة؟

2. بمجرّد أن أذيع خبر اغتيال الناشط السياسيّ الشيوعي شكري بلعيد زعيم الوطد في 6 فبراير 2013 رُفع شعار “يا غنّوشي يا سفّاح، يا قتّال لرواح”. لم ينتظر القوم ساعة واحدة ليرفعوا سُعارَهم بشعارِهم. وأظنّ الغنّوشي، الآن، في السجن بمقتضى ذلك الشعار/الحكم المعَدّ على مقاسه قبل عمليّة الاغتيال.. ربّما.
يبدو لي أنّ حكم هؤلاء على الغنّوشي قد صدر قبل حادثة الاغتيال، كأنّ الذين رفعوا الشعار وألصقوا تهمة الاغتيال بالغنّوشي هم أنفسهم الذين اغتالوا بلعيد. اغتالوا هذا ليدينوا به ذلك، فيكون خلاصٌ من جهتين.
كان لا بدّ من إقصاء الغنّوشي من المشهد. والذين نجحوا في إقصائه بإيداعه السجنَ هم أنفسُهم منتجو هذا الخطاب الاتّهامي الذي نسمعه من بعض التوانسة في شأن الحالة السورية، بقطع النظر عن شخص أحمد الشرع رئيس سوريا الجديد وبقطع النظر عن اختلاف المواقف منه.

3. سوريا بلاد محوريّة في منطقة الشرق الأوسط. وقد سيطرت عليها الدوائر الغربية من خلال نظام دمويّ استعمل شعار الممانعة للتغطية على دمويته. وليس مثل الاستبداد خادما للاحتلال الأجنبيّ يكمل جريمة كان بدأها.
ولأنّ سوريا بلد متعدّد الطوائف فقد كانت الطائفيّة هي الورقة الأهمّ التي تداولها الاستبداد المحلّي والاحتلال الأجنبيّ ليجعلا منها سيفا مسلّطا على شعب تعايشت طوائفه المختلفة مئات السنين.

4. بعد سقوط نظام الأسد طفت الطائفيّة على السطح من جديد لتكون هي الحطب الذي تُضرَم به النيران في الجسد السوريّ لأجل إفشال ثورته والحيلولة دون انعتاقه.
وفي تونس طائفيّة بلا طوائف ونزوع إلى تأجيج صراع لا يراد له أن يتوقّف. فإذا خفتت أسباب الصراع في الداخل التونسيّ بحث بعض التونسيّين عن حطبٍ خارجي ليجدّدوا به اضطرام نيرانهم.
الذين يهاجمون الإسلام السياسي في سوريا من التونسيّين لا يفعلون ذلك إلّا لأجل التنكيل بالإسلام السياسيّ الذي في تونس رغم ما يبدو من اختلاف بين “الإسلامَين”.
هو شكلٌ آخر من صناعة غربيّة اسمها “الإسلاموفوبيا”. وهي صناعةٌ منطقُها إصدار الحكم قبل المداولة.

5. بمجرّد تناقل خبر محاولة الانقلاب على السلطة الجديدة في سوريا وانتشار أخبار متضاربة عن عمليّات تنكيل ارتكبها أنصار النظام الجديد ضدّ أهل الساحل السوريّ، صدرت مواقف لا تحفّظ فيها من أشخاص يُفترَض أنهم عقلاء. تقرأ لناشط قوميّ، مثلا، قوله:
“عصابات الجولاني بصدد تطبيق ما قرأته حرفيّا في أدبيّات ابن تيميّة، المودودي، حسن البنّا. سيّد قطب البغدادي.. بكلّ تفان وإخلاص وهم على دربهم سائرون. شرّ الخلف من شرّ السلف.”
لا أدري لماذا أغفل هذا الناشط “المثقّف” الغنّوشي من قائمته. لعلّه مجرّد سهو.
أظنّ أنّ صاحب هذه التدوينة مثل بقية أبناء طائفته يحمل في جرابه حكما واحدا على جميع هؤلاء الذين ذكرهم متجاوزا أحكام الأزمنة والأمكنة واللغات والمرجعيّات والخلفيات. جميع هؤلاء في سلّة واحدة لأنّهم في رأيه إسلام سياسيّ. وأبناء الإسلام السياسيّ هؤلاء يجمعهم نصّ واحد اسمه القرآن. ولم يخلُ القرآن من آيات كثيرة فيها حديث عن القتال. ربّما يستدعي الانسجام مع الموقف إلقاء اللائمة على القرآن نفسه بسبب ما وفّره لهؤلاء من مادّة نصيّة أساؤوا تأويلها. لولا النصّ ما كان التأويل.
مثل هذا الخطاب السطحيّ الذي لا سند له ليس أكثر من مناكفة تعتمد على قياس سطحيّ لا شاهد فيه ولا غائب.. إنّما هو قياس المجهول على المجهول. ومثل هذا القياس لا يصدر إلّا عن عقل معطوب لا برهان فيه ولا بيان ولا مرجع من عقل.

6. الإنسان حرام بقطع النظر عن هويته وبمعزل عن مرجعيته. الإنسان يحمل في ذاته قداسته التي تحرّم قتله. هذه مسلّمة لا خلاف عليها. لا شيء يبرّر قتل نفس بشرية. ولكنّ الرصانة تقتضي الإحاطة بالأمر قبل إصدار حكم يمتدّ من مصر إلى العراق إلى باكستان ويصل إلى ابن تيمية الذي لا أظنّ أنّ صاحب التدوينة قرأ له حرفا واحدا. هذا من ثقافة السماع المتداوَلة. ولربّما لو قرأ لابن تيمية شيئا لما فهمه.

7. نظام الأسد كان نظاما مجرما. لمّا سقط كان لا بدّ لمنظومة العدالة أن تعمل ليجد الناس في العهد الجديد ما ينصفهم ويداوي جراحهم الغائرة. المنظومة بدت بطيئة. تحقيق العدل يتأجّل. المجرمون السابقون لم يسكتوا. لمّا أمنوا العقوبة عادوا. جمعوا أمرهم واستأنفوا إجرامهم في محاولة للانقلاب. أنصار الثورة وجدوها فرصة لينفّذوا ما لم تنفّذه لهم السلطة الجديدة. الانتقام أعمى والحقد مُهلِك.

لا شيء يبرّر فعلا قبيحا أيّا كان الذي فعله. والخطأ يظلّ خطأ.
ولكن لا معنى لأن تتناسل الثأرات ضدّ رجال كتبوا كتبا ومضوا إلى العالم الآخر.
هذا سُخف وغباء وإسفاف وجهل لا أكثر ولا أقل.
ما هكذا يكون العقل. وما بمثل هذا المنطق تبنى الأوطان.
هل يجد الاحتلال الأجنبيّ خادمًا له أكثر من هذا الخطاب؟


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

نور الدين الغيلوفي

كمائن المقاومة

نور الدين الغيلوفي 1. يبدو أنّ المقاومة، من خبرتها، لم تعد معنيّة بأن “تلعب” مع …

نور الدين الغيلوفي

لا أقبل وساطة من أحد

نور الدين الغيلوفي منذ فارقت أمّي مُكْرَهًا أوّلَ مرّة، وأنا صبيّ، تعوّدت التعويل على ذاتي، …

اترك تعليق