أبو يعرب المرزوقي
ما الشروط التي تمكن الغرب من تحدي المسلمين بجعلهم عاجزين عن التصدي للتوحش الضروري للإبقاء على مليار ونصف منهم أضعف من هذه القاعدة الغربية؟
نشرت نصا بالفرنسية في جريدة الحزب الشيوعي التونسي حول مشكل الغرب في سعيه لحماية قاعدته الإسرائيلية قبل ارتحالي إلى ماليزيا بقليل في نهايات العقد الأخير من القرن الماضي فوضعت فيه السؤال التالي:
ما الشروط التي تمكن الغرب من تحدي المسلمين بجعلهم عاجزين عن التصدي للتوحش الضروري للإبقاء على مليار ونصف منهم أضعف من هذه القاعدة الغربية؟
وتوصلت إلى كونها من صنفين استعملهما الغرب لفرض هيمنته على العالم كله ونحن من بين أكثرهم تضررا من هذه الهيمنة.
لكن كليهما بات مستحيلا لأن التفوق الذي كان الغرب حائزا عليه بدأ يتضاءل في كل ميادين القوة المادية والروحية وهو تقريبا شبه منته في راهن التاريخ الحالي.
تلك هي علة استحالة تواصل هذه هيمنته التي توقعتها:
1. الشرط الأول هو بقاء تفتيت دار الإسلام وفرض العلمانية بمشروع سايكس-بيكو أي تفتيت الجغرافيا وتنصيب عملاء يحاربون التاريخ المشترك لتشتيت التاريخ: مشروع ربط التحديث مشروطا بالحرب على الإسلام.
2. الشرط الثاني هو منعه كل المحميات التي نتجت عن التفتيت من تحقيق التحديث رغم العلمنة التي أيدها بتفتيت التاريخ واعتبار الإسلام علة التخلف: لم تتقدم بالحرب على الإسلام ومحاولة تغريب المسلمين.
النتيجة هي أن من استطاع تجاوز التدارك من المسلمين وتجاوز الفرق الكيفي على الأقل في مشروع إعادة البناء المخرج من التبعية بينه وبين شروط القوة التي تؤسس للتفوق الغربي ليس من تنكر للإسلام واستطاع إلغاء فاعلية اللحمة الحضارية والقيمية الجامعة بين المسلمين بل هو أحد خمسة أنواع من الشعوب الإسلامية.
النوع الأول:
• من هويته مستمدة من الإسلام دون أن يكون قد سعى إلى التحديث بالعلمنة مثل الملاويين وهم خمس المسلمين إذا حسبنا إندونيسيا وماليزيا والبعض من الإمارات حولهما.
• مسلمو الهند بسبب تقسيمه إلى دولة هندوسية وفيها نسبة كبيرة من المسلمين المستضعفين ودولة إسلامية انقسمت إلى دولتين تحيطان بالهند الهندوسي (باكستان وبنغلادش) وهم خمس المسلمين الثاني.
النوع الثاني:
• أو من استرد هويته الإسلامية بعد تجربة العلمنة ما يقرب من قرن وصار أكثر تبعية مما كان قبل الانحطاط. مثل الأتراك وهم قريب من هذه نسبة الخمس الثالث إذا تجاوزنا تركيا إلى بقية الأتراك في مستعمرات روسيا سابقا.
• شعوب إفريقيا التي قسمتها الإمبراطوريات الاستعمارية إلى محميات توابع لها ولم تستطع تنصيرها ونراها الآن تسترد هوياتها وتتخلص من الفرنسة والسكسنة وتستعيد أمجادها في ماضيها الإسلامي التي حاول الغرب القضاء عليها.
النوع الثالث:
• شعوب آسيوية وإفريقية إما عربية أو استعربت بفضل الإسلام وهي المحميات التي تجمعها الجامعة العربية ويمكن اعتبارها قلب الأمة الإسلامية كلها لكونها صاحبة النشأة أولا ثم حائزة على مركز شعائر الإسلام وصاحبة لغة القرآن وكلها فشلت فيها العلمنة.
• كل أنسبائهم الذين يعيشون في بلاد الأقطار العربية من حاملي الجنسيتين وهم في الغالب من المضطهدين في أقطارهم الأصلية قبل أن يصبحوا مواطنين عرب بالمصاهرة أو باختيار “نحلة العيش” العربية لاستمرائهم الحياة غير الغربية شبه هجرة عكسية.
النوع الرابع:
• هو ما في هذه الأربعة أخماس ممن يجعلون مقاومة التفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي مشروعا لسياستهم وموقفهم صراحة أي كل الذين جعلهم الغرب هدف حربه تحت مسمى الإرهاب من سنة دار الإسلام من إندونيسيا إلى المغرب.
• الجاليات الإسلامية في العالم غربه وشرقه كلهم مضطهدون متهمون بالإرهاب مثلهم، وهم مقاومون يطالبون بحقوقهم وهم من ذوي الجنسيات المزدوجة وأنسبائهم من أبناء هذه الأقطار الأصليين ذكورا وإناثا.
النوع الخامس:
• كل المضطهدين في الغرب من عامة المستضعفين في الغرب وفي الشرق والتي تستعبد بمنطق دين العجل وأداتيه أي ربا الأموال وربا الأقوال أداتي الغرب في السيطرة على العالم بالنظام البنكي وبالنظام الإعلامي.
• ونخب كل الحضارات التي استأنفت دورها وصار الغرب يعتبرها منافسة له وغالبها من الشرق أو من الغرب الذي تقاسمه القطبان السابقان ثم القطبان الحاليان. كما في حالة موقف أمريكا من أوروبا التي صارت تعاملها معاملتها لنا.
وبذلك فجل البشرية الحالية لم تعد قابلة بالتبعية بل صار مشروعها ورؤيتها السعي للتحرر من الهيمنة الغربية. حتى أن الغرب يقابل كل البشرية وكأنه الحضارة المارقة في رؤية العالم الحالي الذي صار يسمى الجنوب الشامل المعارض للهيمنة الحضارية والقيمية الغربية بل إن الغرب نفسه تفتت على الأقل في المقابلة بين أوروبا القديمة أو الغرب الأدنى وأمريكا أو الغرب الأقصى.
فإذا أضفنا أن الغرب قد خسر المعركة الديموغرافية وبدأت تسيطر على جل نخبه الرؤية العدمية فإن وزنه المادي والروحي بدأ يتضاءل ومن ثم فهم لم يعودوا قادرين على فرض خياراتهم فضلا عن أن يعيدوا استعمار العالم.
لذلك فما حققته الصهيونية من سيطرة على الغرب بدأت تتضاءل هي بدورها ولن يكون بوسع الغرب التضحية بمصالحه في الداخل وفي الخارج لمواصلة تدليل الصهيونية. فهي بدأت تسقط في الغرب نفسه بفضل ما حققه الطوفان أولا وبفضل ما نتج عن وحشية إسرائيل وعنجهية مؤيديها في الغرب.
لذلك فلا يمكن تصور الغرب قادرا على ما قدر عليه في الحروب الصليبية وفي حروب الاسترداد فضلا عن استعمار العالم من جديد حتى لو بقيت النخب في كل هذه الحالات خاضعة لوهم التفوق الغربي والانهزامية المادية والروحية.
فالمقاومة التحريرية والتحررية لا تحتاج إلا للجماعات الفاعلة في كل تغيير وهي دائما أقلية ملتزمة بخيارات قيمية روحية دافعة واستراتيجية مناسبة عرفها ابن خلدون بالمقابلة بين نوعي الحروب: المناجزة بيد الأقوى ماديا والأضعف روحيا والمطاولة بيد الأقوى روحيا والأضعف ماديا وهو ما يصدق على العلاقة بيننا وبين الغرب الحالي في الحالة الراهنة من المقابلة غرب وجنوب شامل.
ولهذه العلة فإن هذا التحليل الكمي والكيفي لعناصر الصراع الجاري يقتضي أن أبين في فصل ثان الاستراتيجية التي تحقق غايات بأدوات تجعل المطاولة ممكنة لنا في وضعنا الراهن والمناجزة مستحيلة على الغرب الحالي.
وسأبين في كلامي على الاستراتيجية التي فرضت نفسها كما بين الطوفان والربيع وحتى مآل التقاطب السابق بين السوفيات والغرب أن الوحشية الغربية الأمريكية والصهيونية دليل ضعف وخوف لعلمهم بما ذكرت في الأخماس المضاعفة من حال العالم إزاءهما وليست دليل قوة وشجاعة.
هم يسارعون الخطى لخوفهم من تسارع حركة التحول التي تعني هزيمتهم الحتمية.
ورغم أني لا أنكر بأن جل نخبنا الحاكمة وتوابعها من النخب المستلبة ليست مؤهلة لقيادة هذه المعارك المادية والروحية فإن من حظنا أن الشعوب كلها التي أحصيتها باتت أميل للأقليات المقاومة وهي كلها إسلامية الهوى بخلاف ما يتوهم المتكلمون على نهاية الإسلام السياسي.