Site icon تدوينات

‏الجَنَائِزُ مَقَامَات!

أدهم شرقاوي

أدهم شرقاوي

أدهم شرقاوي

‏الصليب الأحمر سلمنا أجساد شهدائنا بأكياس نايلون زرقاء

‏عندما اشتدَّ قصفُ الحجَّاجِ بن يوسف الثَّقفيَّ على الحَرَمِ في مكَّة، وقد تحصَّنَ عبدُ اللهِ بن الزُّبير قريباً من الكعبة، دخلَ عبدُ اللهِ على أُمِّه ذاتِ النِّطاقين أسماء بنت الصِّديق، وقال: يا أماه، إنِّي مَقتولٌ في يومي هذا فلا يَشتَدَّنَّ حُزنُكِ، ولكنِّي أخافُ إنْ قَتَلوني أنْ يُمَثِّلوا بي ويَصلِبوني!
‏فقالتْ له قولتَها المشهورة التي أصبحتْ مَثَلاً: يا بُني، لا يَضُرُّ الشاةَ سَلخُها بَعدَ ذَبحِها!

‏نحن نُؤمنُ أنَّ الأجسادَ ليستْ إلا وعاءً للأرواحِ، وأنَّه في اللحظة التي تُفارقُ فيها الرُّوحُ الجسدَ، فإنَّها إمَّا أن تذهبَ إلى نعيمٍ مقيمٍ حتى يقوم النَّاسُ إلى الحساب، أو أن تذهبَ إلى عذابٍ مقيم حتى يقوم النَّاسُ لربِّ العالمين!

‏أما هذه الأجساد فليستْ إلا أغلفة نُواريها التُّراب إكراماً للأرواح التي كانت فيها، وكفًّا لأذاها عن الأحياء!

‏نحن نُؤمنُ أنَّ أصحابَ الأخدود حين أُحرقوا جميعاً، فإنَّ الذي أُحرقَ هي هذه الأجساد فقط، وأنَّ اللحمَ حين تفحَّمَ كانت الأرواح في عِليين!
‏نحن نُؤمنُ أنَّ ماشطة ابنة فرعون وأولادها، حين أحمى فرعون الزَّيتَ وألقاهم فيه، لم يُذِبْ الزَّيتُ المغليُّ سوى أجسادهم، أمَّا أرواحهم فشمَّ النَّبيُّ ﷺ رائحتها الطَّيبة يوم أُعرِجَ به إلى السَّماء!
‏نحن نُؤمنُ أنَّه حين مثَّلتْ قريشٌ بجسد سيّد الشُّهداء حمزة يوم أُحدٍ، فإنَّها لم تنلْ إلا من هذا اللحم الذي كادَ النَّبيُّ ﷺ لولا أن تجزعَ صفيَّة بنت عبد المطلب أن لا يدفنه، وأن يتركه حتى تأكله السِّباع والهوام، ليُحشرَ يوم القيامة من بطونها! أمَّا روح حمزة فقد كانت قد بلغتْ وجهتها، وألقتْ رَحْلَها في الجنَّة قبل أن تعملَ في جسده سكّينُ وحشيّ!
‏نحن نُؤمنُ أنَّ فتى قريشٍ الوسيم مصعب بن عُمير، حين كان ملقىً على التُّراب وقد قُطعَ ذراعاه، ومُثِّلَ بوجهه البهيِّ، فإنَّ هذا التَّمثيل لم يطَلْ إلا هذا الجسد الذي كان وعاءً لروحه، أمَّا روحه فكانتْ في مكانٍ نغبطه جميعاً عليه!

‏الصليب الأحمر سلَّمنا أجساد شهدائنا بأكياس نايلون زرقاء

‏ولكنَّ إيماننا هذا لا يجعلنا نرضى أن يُساء إلى أجساد شهدائنا كما فعلَ الصَّليب الأحمرُ الدُّوليِّ!
‏وإنَّ الذي حدثَ يوم الخميس حين بادلنا جِيفَ أعدائنا بجثث شهدائنا يحتاجُ إلى وقفة!
‏الصَّليبُ الأحمرُ سلَّمنا أجساد شهدائنا بأكياس نايلون زرقاء وكأنَّ هذه الأشياء التي داخلها مجرَّد قمامة، وليست أجساد بشرٍ كان لديهم عائلات وأحباب وأحلامٌ وطموحٌ وأهداف!
‏بينما أقام ما يُشبه مراسيم جنائزيَّة لجيف المحتلين!

‏هذا الغرب العاهر لا يتركُ فرصةً إلا ويُحاول أن يُخبرنا فيها أننا كائناتٌ دُنيا يستحيل أن ترقى إلى مكانتهم هم صفوة البشريَّة ونخبتها!
‏حتى في الموت يُمارسون عنصريتهم، ويخبروننا أنَّ الجنازات مقامات!

‏نحن نُؤمنُ أن أرواح شهدائنا في الجنَّة بإذن الله، وإن وضعوا الأجساد في أكياس نفايات!
‏ونُؤمنُ أنَّ أرواح المحتلين في النَّار بعدل الله، وإن لفُّوا جيفهم بالحرير!
‏ولكن التعامل الفوقي مع الموت على قاعدة: أبناء جارية وأبناء ستٍّ!
‏فهذا شيءٌ غير مقبولٍ أبداً!

‏نحن نُؤمنُ أنَّ هذه الدُّنيا ليستْ نهاية المطاف، وأن الحكاية لا تنتهي بالموت، وإنما تبدأُ به!
‏وأنَّ القبور إمَّا رِياضٌ من رِياض الجنَّة، وإمَّا حُفَرٌ من حُفر النَّار!
‏وأنَّ الكافر في عذاب مقيمٍ وإن شُيِّدَ له قبرٌ من الرُّخام يبلغُ عنان السَّماء!
‏وأنَّ المؤمن في نعيمٍ مقيمٍ وإن وُريَ جسده في قبرٍ جماعيٍّ!

‏ولكن التعامل معنا على قاعدة: ناس بسمن وناس بزيت!
‏شيءٌ مُؤذٍ جداً، ألا يكفيهم قتلنا مرَّةً واحدة؟!
‏عموماً كما أقولُ دائماً في كلِّ المواقف المُشابهة:
‏لا أعجبُ إلا من أمرين:
‏من جُرأةِ النَّاسِ على الله، ومن حِلْمِ اللهِ على النَّاس!

‏أدهم شرقاوي / سُطور

Exit mobile version