زهير بن يوسف
على مرتفع من الأرض لا يدركه الوهد ولا يرقى إليه الماء، وبقصيّ من التلال أبعد ما يكون عن الغور، هناك قريبا من المنتهى، كان الشهيد بانتظارنا.
حططنا الرحال عند سفح هضبة نبت عليها الربيع واخضلّ الطلّ، وانطلقنا كسيل منهمر يغالب عقبة كأداء لا يقطعها السالك إلا كمن يصّعد في السماء،
اشرأبتّ منّا الأعناق إلى مقام الشهيد وطهارة الأعماق،
رأيناه هناك، بعيدا وراء السديم وهو يتألّم: بركان رفض وغضب، في عينيه وميض كلمات كأنّما صارت ممنوعة،
وفي دواخله خواطر صاخبة آن لها أن تكون مسموعة. اصّعدنا في الربوة، قامات وهامات، وبقدر الخطى كان أوار الحنين واشتداد اللظى، حرقة تصهر الفؤاد ورجع ألم،
ألم نألمه لم يألمه بعد إنسان، يحدونا أمل لم يأمله بعد إنس قبلنا ولا جانّ.
هناك في ناحية ما من التلّة تراءت لنا مريم، وقد تجلّت في حضرة الغياب، أريج ياسمين أو طيفا من خيال، تراءت لنا مريم باكية أو هكذا شُبّه لنا،
– أوتبكين يا مريم؟
– نعم أبكي قبلتي التي ضيّعتها، أبكي الجهات الستّ ارتدت عليّ نكرانا وقلّة وفاء، نعم أبكي ولا أملك إلا البكاء؟ أبكي عزيزا يقتل برصاص الوغد ولا تزلزل له الأرض ولا تنهدّ السماء؟ أبكي دماء مهدورة وآفاقا مغدورة وأحلاما مطمورة.
فجأة انتفض الشهيد من رحم الموكب كما ينتفض طائر الفينيق من الرماد عائدا إلى الحياة: علا، سما، سنا ثم من نزيف الجراح نبا،
الرصاصة الغادرة كانت ما تزال هناك غائرة في فخذه اليسرى
وكان الجرح على نزيفه يأبى أن يكفّ.
وقبل أن يـرتدّ إلينا طرفُنا اغتسل الشهيد بماء العلم، وتخلّى سريعا عن الألم:
“آه يا لزهر يا كبدي؟ باش نموت من القهرة؟” هكذا تكلّم عمّ الشاذلي
لمعت فينا فجأة عيون الوطن، وانحسرت عنّا لحين لوحة لم تكتمل، وتسارعت منّا الخطى فسبقنا حلمنا، ورفرفت فينا أجنحة كبرياء وتسربلنا بنسائم من الحنّاء وامتدت منّا الأيدي مرفوعة إلى يد مضرّجة بالدماء:
دفقة من هيام وخفقة من غرام ونبضة وجد ينفطر لها القلب ويهتزّ بها الشريان. بماذا جئناك أيها الشهيد، وقد أقفلت دونك الأسرار؟ وأرخيت حولك الأستار؟ وسكنت من حولك الريح وقام الغبار؟ وهدأت نار تاريخ صنعت وخبا منه الأُوار؟
-يا خيل سالم؟ باش روّحتولي؟
هل تعرف منا أحدا؟
ومن مفاصل ذاكرتنا يا الأزهر ما هجّرناك، ومن تقاطيع مواجدنا يا الأزهر* ما اقتلعناك
وأنت = أنت، أنت من داس شوكا وزرع وردا وأسال حبرا وحمى عرضا وأحيا أرضا وأخمد نارا وأعاد اعتبارا وأزال قهرا وجدّد دهرا ووهب من روحه الزكية ونفسه الأبيّة سماء كاملة من الحرّية.
– يا الأزهر*، يا ابن أُمّي
– جئناك من مآقي القحط، نعم،
ولكن كما في كل عام متألّقين،
جئناك من جفون الجدب، نعم،
ولكن كعهدك بنا دوما شامخين،
أتيناك من فيافي العمر، نعم ولكن أوفياء، ” خرجنا ” إليك من حضيض الغدر، نعم ولكن ريحانة اشتهاء.
سيقولون إنك نغمة شاردة، بل شظايا نغم وصدى أمسنا المنصرم،
وأنت من أهدى جدّهم عباءته، وستر عورته، وأطعم من جوع مسغبته، وجدّتهم أهداها فستانها المخمليّ، وقرطها المثلوم، وعطرها المختوم، وقصرها المرمري؟
وها هم يغتسلون ببقايا أفراحنا، وهاهم يزدرون آلام أتراحنا،
ونحن الذين وفينا؟
ونحن الذين أبينا؟
ونحن الذين سمونا؟
ونحن الذين عفونا على من عتا؟
جئناك نعتذر، فلا تسلنا ما الخبر؟
وعدا، سنفي، عهدا، العزم منّا لن يني،
لن تقتل أيها الشهيد مرّتين: نال منك رصاص قنّاص غادر، ولكنك، كما عنترة، لن تموت مرتين: لن تقتلك مؤسسات الدولة السلطانية، لن تقتلك الذاكرة الوطنية،
زرعت بيننا أشجار الورد ولن نقدّم لك من جناها إلا ألف باقة، رغم الانحناء، سفر تكوينك في ابتداء، رغم الانحناء، سفر تكوينهم في انتهاء:
” تحيا تونس الحرة،
يحيا الشعب التونسي العظيم،
المجد للشهداء،
الحرية للتوانسة،
تحيا تونس العظيمة “.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هو الأزهر الكثيري (46 عاما، أصيل معتمدية عمدون، ولاية باجة)، وكيل أوّل بجيش الطيران التونسي، أصابه رصاص قنّاص غادر بمدينة بنزرت، عند محاولته إيصال سيّدة حامل كانت على وشك الوضع إلى مصحّة الرّوابي على الساعة الرابعة من فجر يوم الأحد 16 جانفي 2011.