Site icon تدوينات

تونس – قضية “إنستالنجو”: استغلال العدالة وحكم ساحق

لجنة احترام الحريات وحقوق الإنسان في تونس (crldht)

أصدرت الدائرة الجنائية الثانية بالمحكمة الابتدائية بتونس، في الخامس من فبراير/شباط 2025، أحكامًا بالسجن مجموعها أكثر من 700 سنة ضد المتهمين في قضية “إنستالنغو”، التي تحولت إلى ملحمة قضائية مليئة بالتطورات العبثية. يبدو أن هذه المحاكمة تمهد لسلسلة من القضايا المتعلقة بـ”التآمر على أمن الدولة”، والتي يُعتقد أنها ملفقة بهدف قمع المعارضة السلمية التي بات أغلب وجوهها خلف القضبان.

مباشرة بعد إعلان هذا الحكم، نشر قيس سعيّد مقطع فيديو مطولًا ظهر فيه داخل مقرات الوزارات، حيث ألقى خطابات نارية ضد “الخونة” الذين يتهمهم بالتآمر عليه.

وأُصدر ضد راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة والرئيس السابق لمجلس نواب الشعب، حكمًا بالسجن لمدة 22 عامًا وغرامة مالية قدرها 80 ألف دينار.
هذا الحكم، الذي يضاف إلى الأحكام الصادرة سابقًا، بمثابة إصدار حكم بالموت البطيء على هذه الشخصية السياسية البالغة من العمر 83 عامًا، والتي حُرمت من الرعاية الطبية المناسبة وتُحتجز في ظروف قاسية. وبات من الواضح أن هذا القرار لا يُعد فقط مجرد إجراء عقابي، بل جزء من إستراتيجية تصفية تدريجية بعيدًا عن الأضواء وعن أي دعم دولي. ويجسد هذا الحكم بوضوح إرادة قيس سعيّد في تنفيذ خطوة مدروسة تهدف إلى القضاء سياسيًا وجسديًا على الزعيم السابق لحركة النهضة.

وطالت الأحكام بالسجن وزراء سابقين وكبار المسؤولين في حركة النهضة، بالإضافة إلى مدونين شباب ومؤثرين. ومن بين المحكوم عليهم رئيس الحكومة الأسبق هشام المشيشي، الذي صدر بحقه حكم بالسجن لمدة 35 سنة، وشهرزاد عكاشة، الصحفية التي صدر ضدها حكما بالسجن لمدة 27 سنة. كما شملت الأحكام محمد علي العروي، الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الداخلية، الذي حُكم عليه بالسجن لمدة 13 سنة، فيما حُكم على الأزهر لونقو، المدير العام السابق للمصالح الخاصة، بالسجن لمدة 15 سنة، إلى جانب غرامة مالية قدرها 300 ألف دينار ومصادرة عقار مرتبط بالقضية.

استغلال العدالة

وتتعلق قضية “إنستالينغو” بشركة إعلامية أنشئت عام 2015 متخصصة في إنشاء محتوى الاتصال الرقمي وإدارة الصفحات وإنتاج المحتوى على شبكات التواصل الاجتماعي. واتُّهم قادتها بالتآمر ضد أمن الدولة وذلك على خلفية مزاعم بالتورط في زعزعة استقرار المؤسسات التونسية من خلال حملات رقمية.

وأُطلق هذا التحقيق في عام 2020، ولم يكن حينها يشير إلى راشد الغنوشي أو حركة النهضة. ومع ذلك، بعد الانقلاب الذي قام به قيس سعيد في 25 يوليو/تموز 2021، أعاد أحد وكلاء النيابة في منطقة سوسة فتح الملف بالتهم نفسها، ولكن هذه المرة مع إضافة راشد الغنوشي وعدد من السياسيين ورجال الأعمال المعارضين لانقلاب 25 يوليو/تموز 2021 الذي قاده قيس سعيد.

وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، استجوب قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بسوسة 2 راشد الغنوشي لمدة 12 ساعة. ونظراً لقساوة الإجراءات وعدم انتظامها، رفض الغنوشي مغادرة مكان احتجازه ولم يحضر جلسة الاستماع في 9 مايو/أيار 2023. وفي غيابه، قرر قاضي التحقيق توجيه التهم إليه والإبقاء عليه قيد الاحتجاز.

ويُلاحق المتهمون بسبب تهم تتعلق بتبييض الأموال والتآمر على أمن الدولة بهدف تغيير شكل نظام الحكم. كما يُتهمون باستخدام صلاحيات وظائفهم أو مهنتهم للتحريض على الفوضى وزعزعة استقرار الدولة، بالإضافة إلى تهم تتعلق بغسل الأموال.

وفي مارس/آذار 2022، قرر قاضي تحقيق إسناد القضية لصالح القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، بسبب الشبهات المتعلقة بتمويل أنشطة تخريبية عبر حملات رقمية.
ووسّعت السلطات نطاق الملاحقات لتشمل عدة شخصيات سياسية ورجال أعمال. ويُتهم عادل الدعداع، رجل الأعمال البارز في القضية، بتنسيق عمليات التمويل لحركة النهضة.

شذى حاج مبارك ضحية مزدوجة

واعتُقلت الصحفية شذى حاج مبارك في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2021 في إطار ما يعرف بقضية شركة “إنستالينغو”. ورغم كونها مجرد موظفة في الشركة، وُجهت إليها تهم بالتآمر على أمن الدولة والإخلال بالنظام العام وإهانة رئيس الجمهورية. وقد أصبحت هذه التهم شائعة ضد الصحفيين والنشطاء منذ أن فرض قيس سعيّد حالة الطوارئ في 25 يوليو/تموز 2021.

وتعرضت عائلة شذى حاج مبارك للمضايقات، حيث تم اعتقال والدها وشقيقيها قبل أن يتم الإفراج عنهم لاحقًا. ورغم الإفراج عنها بعد إسقاط التهم في صيف 2022، إلا أن النيابة العامة استأنفت القرار، وقامت وزيرة العدل بتعيين ثلاثة قضاة تحقيق متعاقبين بهدف إبقائها رهن الاحتجاز.

وأثارت الأزمة الصحية التي تمر بها شذى والتي تفاقمت بسبب المعاملة التي تعرضت لها في السجن، قلق محاميها ونقابة الصحفيين التونسيين.

اتهامات لا أساس لها من الصحة في سياق القمع

وتعكس الإدانات الصادرة في قضية إنستالينغو حكمًا متسرعًا، يتسم بقرارات عاجلة تفتقر إلى الأسس القانونية أو الاستناد إلى أدلة وحقائق ملموسة:

  1. تستند اتهامات التآمر وتبييض الأموال إلى شبهات تدفقات مالية أجنبية، دون أن تكلف المحكمة نفسها عناء تقديم حجج أو تحديد العناصر التي استندت إليها لتوصيف الادعاءات المجردة لشهود الاتهام، وذلك في غياب مسار تقاضي متكافئ ومنطقي يتماشى مع القانون.
  2. يعكس الاستهداف الصريح لشخصيات معارضة لقيس سعيد، مثل راشد الغنوشي، وجود إرادة سياسية لتحييد المعارضة تحت ستار الإجراءات القضائية.
  3. كانت التدابير القضائية محدودة، وغالبًا ما تصرف قضاة التحقيق بشكل عاجل لتمديد فترات الاحتجاز دون ضمان مراجعة عادلة للقضايا.
  4. أُُصدرت أحكام بالسجن وصلت إلى 35 عامًا ضد صحفيين وسياسيين وناشطين دون وجود علاقة سببية واضحة، مما يوحي بأن الهدف من هذه الأحكام هو القمع لا تحقيق العدالة.
  5. تندرج القضية ضمن حملة منهجية للقمع تهدف إلى إسكات الأصوات المعارضة وفرض مناخ من الرعب يعزز من ممارسة الرقابة الذاتية والتواطؤ مع جرائم النظام الحاكم منذ انقلاب يوليو/تموز 2021، مما يثبت صحة الاستنتاجات المتعلقة بالأحكام التعسفية.

وتشير هذه العناصر إلى أن الأحكام الصادرة تلبي توجيهات سياسية ولا تعد نتيجة لإجراءات قضائية تلتزم بالمعايير الدستورية الوطنية والدولية المعمول بها.

Exit mobile version