نور الدين الغيلوفي
1. أحمد الشرع كان قبل أشهُرٍ قليلة مصنَّفًا إرهابيّا، وكانت حكومة الولايات المتّحدة الأمريكية قد رصدت عشرة ملايين دولار مكافأةً لكلّ من يأتي به أو يدلّ عليه.
يوم 2 فبراير 2025 استقبلته المملكةُ العربيّةُ السعوديّةُ، رأسُ حلفاء الولايات المتّحدة في الخليج العربيّ، مُمَثَّلةً في وليّ عهدها محمّد بن سلمان وطاقم حكمه. ويوم 4 فبراير استقبله الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، استقبلاه رئيسًا للجمهورية العربيّة السوريّة. وكان قد سُمّيَ رئيسًا يوم 29 يناير 2025 وهنّأته بتسميته في منصبه، من الدول العربيّة، كلٌّ من وقطر والسعوديّة والأردن والإمارات ومصر.
فما الذي يعنيه ذلك؟
2. الأمر يبدو لي متعلّقا بما تنتجه الدول العظمى من مفاهيم تحمل بقيةَ دول العالم على تبنّيها وتصريف سلوكها السياسيّ بحسبها. ومفهوم الإرهاب من بين تلك المفاهيم الملتبسة التي تفسّرها القوى العظمى كما تشاء حسب مصالحها دون أن تكون، في ذلك، معنيّةً بالأمن والسلم العالميّين.
الإرهاب هو ممارسة العنف لأجل تحقيق هدف ما سياسيّ أو اقتصاديّ يمكن أن يتحقّق بالوسائل السلميّة. ولأنّ جميع دول العالم منخرطة في النظام العالميّ عبر منظَّماته ومؤسّساته المعروفة، فإنّ أيًّا من تلك الدول لا توصف بكونها دولةً إرهابيّةً، ولو كانت دولةَ احتلال، رغم أنّ الاحتلال لم يعد مقبولا في منطوق القوانين الدولية. ولو كانت دولة دكتاتوريّة، رغم أنّ أمريكا عنوان حضارة الرجل الأبيض الحديثة لا تفتأ تبشّر بالديمقراطية باعتبارها ثمرة من ثمار نظامها الليبراليّ المهيمن الذي بلغ معه التاريخ نهايته.
3. الإرهاب في التاريخ موجود. غير أنّه لا يسمّى إرهابا، في نظري، إلّا ما كان ظلما لا عدل فيه. معنى ذلك أنّ الظلم متى بلغ مداه كان إرهابًا. وليس يُعَدُّ إرهابا إلّا ذاك الذي يرتكبه الظالم ضدّ المظلوم. أمّا الذي يعمل على دفع الظلم عنه فليس إرهابيّا ولو حكم العالمُ عليه بإرهابيّته. المظلوم يكون عادة ضعيفا، ولا يلجأ الضعيفُ إلى العنف إلّا متى سُدّت عليه سبُلٌ سلميّة يدفع بها الظلم عن نفسه.
حين يمتنع دفع الظلم بالطرق السلميّة يُحمل المظلوم على سلوك سبيل العنف. وفيه تستوي الحياة، لديه، بالموت. بل يكون الموت هو سبيل الحياة الوحيدَ، لأنّ الظالمين أشدّة قوّةً من المظلومين وأشدّ فتكا. ويكون القتل آلتهم للخلاص من أصحاب الحقّ.
أحمد الشرع قاوم الظلم في العراق حين التحق بمقاومة الغزو الأمريكيّ سنة 2003. وقاوم الظلم حين انخرط سنة 2012 في ثورة الشعب السوريّ ضدّ نظام بشّار الأسد الدكتاتوريّ. ولقد اكتسب اسمَه من مقاومته للظلم. واسم “أبو محمّد الجولاني”، الذي كان له عند التحاقه بمقاومة الاحتلال الأمريكيّ الأجنبيّ في العراق وبمقاومة الاحتلال الأسديّ المحلّيّ في سوريا، لا ينبغي أن يحجب اسم “أحمد الشرع” الذي كان اسمه في البدء ثمّ استعاده لمّا انتصر على النظام النازيّ المدعوم من روسيا وإيران وحزب الله اللبنانيّ وميليشيات الحشد الشعبيّ العراقيّة. بانتصاره على هؤلاء استحقّ أن يسترجع اسمه الذي سمّاه به أبوه.. أحمد الشرع الذي صار به رئيسا للجمهوريّة العربيّة السوريّة بعد سقوط نظام الرئيس بشّار بن حافظ الأسد.
الإصرار على العودة إلى لحظة أمريكيّة سابقة لمحاكمة الرجل تحت عنوان المقاومة والممانعة ليس من الفهم في شيء. فبشّار الأسد لم يكن ممانعا ولم يكن أبوه من قبل من الممانعة في شيء. الأسد أتقن اللعب على الحبال للمحافظة على نظامه التسلّطي أكثر من نصف قرن ولم يحرّر شبرا من الأرض السورية المحتلّة. الذي يعجز عن تحرير أرضه لا يمكن أن يسمّى مقاوما ولا ممانعا. والثورة عليه واجب وطنيّ وقوميّ.
4. لا أظنّ أنّ سوريا يمكن أن يحكمها إرهابيّ يبقي على إرهابيّته. ولا أظنّ حكّام الدول يمكن أن يستقبلوا إرهابيًّا. الذين يسهل عليهم أن يَصِمُوا من يعارض حكمهم بالإرهاب لا يمكن أن يعترفوا بإرهابيّ حقيقيّ إلّا أن يكون من صنعهم، ولا أظنّ أحمد الشرع من صنع أحد.
الإصرار على اتّهام الرجل بالإرهاب ليس دليل فهم ولا تعبيرا عن حضور عقل. السلطات الأمريكية هي التي أطلقت عليه ذلك الوصف وهي التي تكفّه، الآن، عنه. والإصرار على الوصف الأمريكيّ ليس تعبيرا عن الممانعة.
5. الشعوب في الدول التي استولت عليها الثورات المضادّة وجعلت منها مسارح للتهريج السياسي ومجالات للفشل الاقتصاديّ وأطُرًا للتحلّل الاجتماعيّ تنظر إلى سوريا، اليوم، بغير قليل من الاحترام. الشعب السوري الذي قُصفت مدنه بالبراميل المتفجّرة وتداعت عليه الدول والميليشيات للقضاء على ثورته ولتشويه قادته يستعيد، بقيادة أحمد الشرع، سوريا وطنَه الذي دفع لأجله 13 سنة من القمع والسجن والتقتيل والمقابر الجماعيّة والتهجير والموت في البحار.
6. الإسلاميون “الكيوت” الذين انخرطوا في ديمقراطيات دولهم وانتسبوا إلى دساتيرها الجامعة استنادا إلى أرصدتهم الشعبية ورضوا بالإهانات تأتيهم من الأرذلين، بعد كلّ الصبر الذي تجرّعوه من موقع أمّ الولد التي تصبر على الأذى في سبيل ولدها، هم الآن عرضة للتنكيل والتقتيل جزاء لهم على سياسة “سلميتنا أقوى من الرصاص” التي اتّبعوها. لقد كان جزاؤهم أن أحرقتهم دولهم في الميادين وجرّفتهم بالدبّابات باعتبارهم إرهابا محتملا، والعالم الذي يكره الإرهاب المحتَمَل يتفرّج عليهم بين مشفق ومتشفٍّ.
7. الثورة السورية بدأت سلمية تلقي بالورود على العساكر، ولكنّ العساكر رفضوا الورود وواجهوها بالرصاص. وقد لجأ الشعب السوريّ مكرَهًا إلى السلاح ودفع ثمنا عاليا ليستردّ بلده من نظام ليس أكثر من عصابة غاصبين. كان الثمن عاليا جدا.
بعيدا عن منطق التبشير والتنفير، انتهت لحظة أبي محمّد الجولاني الاستثنائية إلى تحرير سوريا من نظام فاشيّ مجرم وجاءت لحظة أحمد الشرع التي عليها أن تبنيَها. هي لحظة اختباريّة، إذ إنّ السوريّين الذين نجحوا في وضع نهاية لنظام الأسد المتوحّشن يهون أمامهم كل إنسان قد تسوّل له نفسه، يوما، أن ينقلب، تحت أيّ ذريعة، إلى وحش.
ليس هذا تفاؤلا ولا صكّا أبيض لأحمد الشرع القادم من وراء الحِراب إلى كرسيّ الحكم. ولكنّني أقول إنّ شعوبنا العربية تعبت كثيرا من الاحتلال ومن وريثه الاستبداد. شعوبنا تعبت من ظلم الأباعد والأقارب. الظالمون، هؤلاء، من محتلّين ومستبدّين حلفاء، إذ لا فرق بين ظلم وظلم.
والظالم هو الإرهابيّ الذي له 99 قوّة بينما لا يملك المظلوم غير جهده قوّةً.
فمن منهما الإرهابيّ؟
سوريا اليوم كمثل غزّة. شقيقتان تدفعان عنهما العدوان. والعدوان عليهما عربيّ وغربيّ، لأنّهما إذا انتصرتا كان انتصارهما فاتحة لتاريخ جديد تدشّنه المنطقة التي ظلت تعاني من ويلات الظلم منذ القرن 19 إلى الآن.
التجربة التي جاءت الأمّةَ بالدولة العبريّة المتغطرسة وبهذه الدول العربية العاجزة التي لا تغلب غير شعوبها تبيّن أنّها تجربة فاشلة أضاعت من زمن الأمّة ومن مواردها البشرية والماليّة. ثروات الأمّة لم يستفد منها غير الغرب المتغطرس وحكّام لم يفلحوا في شيء أكثر من الأكل. بل كانوا عبئا على الأمّة يطاردون كلّ نفَس حرّ ينفض عنها الغبار ويزيل كلّ هذا العار.
الأرجح أنّ خلاص الأمّة ليس مع نمط بشّار الأسد، وإن لم يكن، بالضرورة، مع نوع أحمد الشرع. فضل هذا أنّه أزاح ذاك.
بقي للتاريخ أن يحكم.