أبو يعرب المرزوقي
ليس عندي الكثير مما يقال في موقف دونالد ترامب.
فهو عين ما توقعته منذ مسعاه للهروب من أفغانستان عند وصله بما كان يفكر فيه للتفرغ إلى التحدي الصيني.
لكن أضيف إلى ذلك ما توقعه وزير دفاع الولايات المتحدة في بداية الطوفان وما نصح به قيادات إسرائيل: فقد قال لقادة إسرائيل المتعطشين للدماء والانتقام بأنهم قد ينجحون تكتيكيا. لكن ما يقدمون عليه هو بداية الهزيمة الاستراتيجية التي لا مفر منها.
وقد حذروهم لئلا يقعوا في ما وقعت فيه أمريكا بعد 11 سبتمبر لما جن جنونها فدخلت حروبا مع أمة الكل يعلم أنها قد هزمت كل من حاربها من الإمبراطوريات السابقة لها واللاحقة؟
فمحاولة القضاء على صمود الأمة التي ظنوها بديلا من السوفيات ومثلهم هشاشة أدت إلى خسران أمريكا السباق مع منافسيها: الصين وروسيا.
وانشغال المعماري وصاحب الصفقات المالية بغزة قد يغير بفهم يحتمل ما يطمئن إسرائيل ويخيف العرب أو العركس.
خاضت أمريكا حروبا كانت كلها خاسرة وكانت ضرورية ليستأنف المسلمون دورهم بتعلم شروطه الحديثة بداية باللحم الحي وغاية بل فنون الحرب الحديثة وإن بعكس الاستراتيجيات التي عرفها ابن خلدون بالمقابلة بين المطاولة والمناجزة.
والشيء الثابت هو أن الفلسطينيين لا يقلون عن الأفغان قدرة على الصمود والصبر والتشبث بوطنهم من ثم فكل حسابات ترامب إذا أخذت على حرفيتها سيتكون لصالح صمودهم سواء فرض عليهم التهجير طرها أو طوعا:
فالقبول به لن يكون سهلا والمعركة لن تقدم عليها أمريا
وإذا أقدمت عليه فإن الغزاويين الضفاويين سيكونون اقدر على المقاومة حينها اكثر من الآن لأنهم حينها لن يكونوا محاصرين كما هم الآن بل ستنفتح كل الأبواب أمامهم ليأتيهم المدد
فضلا عن كون المسألة كلها ستعود إلى ما كانت عليه قبل تأسيس إسرائيل لأنها تصبح متعلقة بكل الشعوب العربية المحيطة بفلسطين من الهلال وأفريقيا وآسيا بالتناسب مع وهم إسرائيل استعادة إمبراطورية داود والعودة حتى إلى المدينة.
ما قاله ترامب البارحة فيه الكثير من محاولة الطمأنة لإسرائيل لكنه في الحلقية لكأنه بثول لقادتها: بينتك عجزكم وأمريكا لن تكون مطيبتهم فتحارب عن أوهامكم. فلا يوجد عاقل يمن أن يعادي ربع الإنسانية من أجل هبال بعض الحمقى من يمينهم.
لذلك فلا اعتقد أن أمريكا مستعدة لفتح هذا الباب عليها إذا كانت تريد الصمود أما منافستها الصين. فكفي عبثا: أمريكا لن تقدم على ما لا قدرة لها عليه حتى لو تصورنا الحكام العرب سيرضخون للابتزاز. ففيه نهايتهم حتما.
لا طاقة لأمريكا والغرب إن تصورناه سيتضامن معها لأنه هو نفسه لا يريد خوض ما خسره من حروب طيلة الف و500 سنة مع المسلمين. لا طاقة لهم على ذلك لأن ما كانوا متمكنين منه دوننا صار في متناول الجميع. وهم من ثم بحاجة لمنطق جيو سياسي مختلف.
لم يعد العرب والمسلمون -رغم فساد جل قيادات المحميات التي نتجت عن سايكس بيكو- باتت شعوبهم تفهم ما عليها وهي قادرة على إيقاف عجلة التاريخ لتوها لما تسعى إليه بمقتضى حقيقة ثورتيه التي يرمز إليها الطوفان والربيع.
ولا مرد للإرادة التي يعبر عنهما الرمزان هذان. فمن تعامل معهما بما يجعلهما تحققها الاستئناف دون معاداة لأي صف من صفوف نظام العالم الجديد سيصبح من يعاديهم لن يفلح أبدا.
ذلك أن خارطة العالم ليس فيها إلا نحن والشرق الأقصى والغرب الأقصى ثم ما بينهما أي نحن وأوروبا أي الإمبراطوريات التي مثلت ولا تزال ممثلة للحضارة الكونية وما بينهما من تواصل وتفاضل خلال ألف و500 سنة ولن يبرح التاريخ الكوني هذا الوسط الذي مآله التحرر من الأقصيين ليكون بؤرة التوازن الكوني في عالم يمكن أن يتجنب الحروب المدمرة للجميع إذا تواصل التخريب النسفي للمعمورة والقيم.
لذلك فالحصيلة هي أن ترامب بصدد طمأنة إسرائيل لكنه في الحقيقة شبه مطمئن إلى خيانة بعض الحكام العرب. لكنه بذلك سينهيهم مع إسرائيل كذلك، أن ما حصل في الطوفان (غزة) وفي الربيع (الشام) دليل كاف إلى أن هذه الأنظمة لم يبق لها مفر من أحد أمرين:
إما فهم اللعبة ومحاولة الخروج منها بالصمود مع الشعوب
أو أن مصيرها سيكون مصير النعجة فيجرفهم الطوفان والربيع
وسنرى ترامب مرة أخرى يطلب الخروج الآمن من الشرق الأوسط بمجرد أن تصبح الأردن ومصر والسعودية وسوريا ولبنان ساحة المعركة الواسعة التي تحسم نهاية شبيهة ما حل بالحلف الأطلسي في أفغانستان.
وما يؤيد عدم غفلة استراتيجي أمريكا عن ذلك هو محاولة المحافظة على شعرة معاوية مع معاوية الثاني والثالث أي أردوغان والشرع.
وختاما ففي كل الأحوال سواء صدق ترامب في كلامه ليلة الأمس أو ناور فإن النتيجة واحدة:
فسواء عدنا إلى ما قبل في وضعية لم يبق فيها المسلمون عزلا كما كانوا قبل 48. فهم الآن قادرون على خوض حرب المطاولة وحتى المناجزة عند اللزوم لأن المدد لن يأتي لمحمية منبوذة عالميا ويجمع الجميع أنها مخيرة إما أن تتكيف مع الوضعية الجديدة فتعيش مع الفلسطينيين في إسرائيل الحالية مناصفة مؤقتا إلى أن تفقد شرطها أو أن تعود من حيث أتت.
48 أو استأنفنا من ثمرة الطوفان والربيع فالاستئناف لا مرد له وقطار إسرائيل “زفر” لأنها لم يعد لها إلا وجود المحمية وفقدت منزلة الطفل المدلل لأن أساس ذلك المادي قضى عليه الطوافان وأساسه الروحي قضت عليه وحشيتها التي أفسدت عليها كل سردياتها في الرأي العام الغربي نفسه أعني عند شبابه وفضلائه.
سيذكر التاريخ أن ترامب وإن لم يكن بقصد منه -قد اسهم في دفن سايكس بيكو وأعاد لدار الإسلام وحدتها لأن تعميم المعركة بصورة تجعلها لصالح إعادة الطموح التاريخي كان بحاجة إلى مهماز تاريخي يكون فشله بداية نهايته وحاجة البشرية إلى يديل منه: وذلك هو الاستئناف الإسلامي الذي هو قدر الله الذي لن يتخلف.