كمال الشارني
والله خيال في خيال أدبي:
منذ أعوام، تدور في راسي رواية جامحة تستعصي عليّ نهايتها:
قرية غرب بلاد يقرر سكانها التوقف عن معارضة الدولة لعدم الجدوى والانتقال إلى مقاطعتها وقطع أية علاقة معها، لا يفكرون في الانفصال عن الوطن ولا أي مشروع حكم سوى مقاطعة الدولة ورفض حضور أية علامة لها في قريتهم، “علاش التلكليك؟ نحن لا نحس أي انتماء إلى هذه الدولة، خلينا نفكوها”، ورغم أن ذلك يبدو جنونيا وعبثيا فإنهم يجتمعون بحماس في ساحة القرية ويحرقون كل ما له علاقة بالدولة من مطالب ووثائق وشعارات ورموز ويغلقون الإدارات العمومية القليلة المتوفرة لهم، يعلن المسؤولون القلائل في القرية استقالتهم أو عودتهم الى الإدارة في الولاية أو المركز “لم نعد بحاجة إليكم، أنتم على أية حال لا تقدرون على شيء، عودوا إلى حيث تتلقون التعليمات”، ويبدأ الناس إعادة اختراع الحياة اليومية المحلية والنظام الاجتماعي واختيار من يتحدث بأسمائهم، في البداية لا أحد يأخذهم مأخذ الجد ثم يرسلون إليهم مسؤولي أمن لأن المسألة تبدو حسب التقارير الأمنية مثل مزاح سيء من مجموعة صغيرة من الشباب المتطرف، لكن تفشل كل المحاولات للتوقف عن المقاطعة، تحدث مفاوضات حكومية بين الوالي وبعض ممثلي القرية ثم مع وزير الداخلية الى رئيس الحكومة الذي يصرخ في مستشاريه: “ماذا يريدون؟” يجيب: “لا شيء غير المقاطعة، لم يطلبوا شيئا، عرضنا عليهم كل شيء: تشغيل عشرات الشباب، مساكن شعبية، منطقة صناعية فرفضوا، كل ما طلبوه في مفاوضاتنا معهم هي أن نتركم في حالهم”.
صرخ رئيس الحكومة: “مستحيل طبعا، هذا عبث، هذا جزء من الوطن، أطلبوا لي وزيري الداخلية والدفاع”.
يبدأ السكان في تجميع أسلحة الصيد وصنع أسلحة بدائية للدفاع وإغلاق الطرقات ونصب الكمائن وفرض مجموعات لمراقبة دخول لمنع كل غريب من الدخول، تظهر “عمليات هروب” من بعض سكان القرية إلى خارجها لكن الأغلبية متمسكة بشدة بالمقاطعة. عندها، تهدد الدولة باقتحام القرية بالقوة لإنهاء “الظاهرة العبثية” ولاستعادة السيادة على كل متر من أرض الوطن ويحرك وزير الداخلية وحدات مقاومة الشغب التي لا تجد طريقة لاقتحام القرية دون خسائر وتواجه هجومات عنيفة من شباب القرية بالحجارة والمقذوفات الحارقة، تنتهي المحاولة بهلاك ستة أشخاص منهم امرأة وطفلان وإصابة اثني عشر عون أمن بجراح بليغة، يعلن السكان المقاومة حتى آخر نفس مع التهديد بالانتحار الجماعي، يتقدم إمام القرية مجموعة من الشيوخ إلى مقدمة فرق مقاومة الشغب لإيصال رسالة واضحة: “لن تدخلوا القرية إلا على جثثنا، مئات القتلى نساء ورجالا وأطفالا وشيوخا، نحن مصرون ولا فائدة في إراقة الدماء، نحن لم نذهب إليكم ولا مبرر لتأتوا إلينا على جثث المئات منا”.
فجأة، تتحول القرية الى مركز اهتمام عالمي بعد أن نشر شباب في منصات تيك توك وفايسبوك وتويتر صورا ومقاطع فيديو عن الحصار ومداخلات لأهم قادة القرية يصفون الوضع الخطير ويطلبون من الحكومة عدم التدخل في قريتهم ومن المجتمع الدولي أن يكون شاهدا على الوضع لكي لا تحدث مجزرة يذهب فيها أبرياء لا غاية لهم سوى الاكتفاء بأنفسهم، سريعا ما تتحول القرية إلى مرجع عالمي للنضال ضد إمبريالية الدولة الحديثة وإلى حركة عالمية ضد همجية الدولة وعبثية حكمها المركزي الفاسد، عشرات القرى في العالم تتضامن معها وترفع اسمها على مداخلها، فرق موسيقية تنتج أغان نضالية للتضامن مع أول قرية مناضلة في العالم.
عمدت الدولة إلى قطع الأنترنيت والهاتف على الجهة كلها لكنها لم تقدر على منع مراسلي الإعلام من متابعة الأحداث، تم حشد عشرات المعدات ومئات الجنود وأعوان مقاومة الشغب والاستعلامات حول القرية لعزلها في توازن حرج بين الحصار العبثي الذي يعني انهزام الدولة واقتحام القرية الذي يخلف عشرات أو مئات القتلى، لكن لا أحد من المسؤولين أو السياسيين القريبين من النظام استطاع أن يجيب على السؤال الحقيقي “لماذا قرر الناس مقاطعة الدولة؟ ولماذا فقدوا الأمل فيها”، كانت قنوات التلفزيون والإذاعات المحلية تنصب كل يوم برامج لشتم أهل القرية والسخرية منهم واعتبارهم ضحايا سذجا لمجموعات متطرفين وأن من واجب الدولة بسط سيادتها على كل متر من أرضها.
في الأثناء، كان ثمة من ينجح دائما في إرسال صور وفيديوهات عن الحياة تحت الحصار إلى خارج القرية ومنها إلى العالم، وقال ممثلو النظام إن مجموعات إرهابية عالمية تقف وراء الوضع وأن “دولا لا تحبنا” مكنت المتمردين من وسائل اتصال أطلقها فوق سماء القرية عبر طائرات مسيرة، إلى أن فشل أعوان الجيش والأمن في تبرير منع وسائل الإعلام من الاقتراب من “القرية التي تحاصرها الدولة” فسمحوا لهم بذلك لكن دون السماح لأحد منهم من دخولها لأسباب تتعلق بأمن المراسلين، لكن بعضهم تمكن من التسلل بمساعدة شباب من القرية وصور هناك مشاهد تم بثها في العالم كله عن الحياة تحت الحصار دون الحاجة إلى دولة، رفع الكثير ممن تم تصويرهم شعارات من نوع الموت جوعا ولا الشبع في ظل بيروقراطية الدولة، لا نريد إحسانا ولا نريد ذلا من إدارات الدولة.
تدخل الأمين العام للأمم المتحدة ليعبر عن قلقه وانشغاله الشديدين بسبب الوضع في القرية ويدعو الدولة إلى التعامل المرن مع الوضع وتفهم مطالب أهل القرية رغم أنه لا يرى أي مبرر للانفصال مذكرا بأن الديموقراطية والحكم الرشيد هما أفضل الطرق لفض النزاعات الداخلية.
ثم تقرر الدولة اقتحام القرية بالقوة العامة للجيش، أيا كان الثمن من أجل استعادة السلطة الرمزية للدولة على كل متر من أرضها، أيا كان رفض الناس لها.