مقالات

سهام بن سدرين: الظلم ربّي ما يسمحش بيه

سامي براهم 

لماذا كانت الأستاذة سهام بن سدرين محلّ استهداف وقصف عشوائيّ من الجميع تقريبا نخبا سياسية وجامعية وجمعيّاتيّة وإعلاميّة يمينا ويسارا؟ ما هي تهمتها عند مخالفيها ومن رفع الدّعوى ضدّها؟

عرفتها وزوجها منذ أن كان مقرّ نشاطها الحقوقي بيتها في شقّة بنهج أبو ظبي بشارع الحريّة، أيّام كان الدّخول إلى المقرّ المحاط بالأمن مغامرة ومقامرة. ومنذ ذلك الوقت الذي أسّست فيه صحبة ثلّة من المناضلين الحقوقيّين المجلس الوطني للحريّات كانت محلّ تشويه وترذيل ونشر للإشاعات والملاحقات التي وصلت حدّ تعنيفها وسحلها وسجنها زمن المخلوع.

سهام بن سدرين
سهام بن سدرين

استهدافها قبل الثورة يفهم في سياق استهداف مناضلي حقوق الإنسان كلّ حسب درجة خطورته في تصنيف السّلطة القائمة.

سهام بن سدرين
سهام بن سدرين

بعد الثّورة ومنذ أن انتخبت رئيسة لهيئة الحقيقة والكرامة لم تهدأ الحملات التي كانت تستهدفها في أشبه ما يكون بالقصف العشوائي المتواصل من القريب والبعيد من داخل الهيئة وخارجها.

البعض استهدفها لأنّه كان يرى نفسه أكثر أهليّة منها لرئاسة هيئة بهذا الحجم والقيمة الرمزيّة وكان يمنّي نفسه بإزاحتها، البعض الآخر كان يعتبر أنّها طرف غير محايد لأنّها كانت ضحيّة أو صاحبة انتماء وفي هذا تضارب مصالح، وهناك من كان يعيب عليها شخصيّتها العنيدة والصّلبة غير الليّنة… وهناك من لم يتّفق معها على طريقة إدارتها لملفات حقوق الإنسان قبل الهيئة وبعدها… لكن كلّ هذه الاعتبارات عرضيّة وذاتيّة ولا يمكن أن تفسّر الحملات المنظمة في الإعلام والمنتظمات السّياسيّة والتي وصلت إلى البرلمان الذي شهد انقساما حادّا حولها… بل شارك بعض الضّحايا أنفسهم في هذه الحملات وتظاهروا أمام باب الهيئة ورفعوا الشّعارات التي تستهدفها بشكل شخصيّ مطالبين بإنهاء أعمال الهيئة…

أمّا المقاصد العميقة وراء استهدافها فهي أبعد من ذلك ونجملها في الأسباب التّالية:

• رفض التيّار الدّستوري التجمّعي الذي لم يكن طرفا في صياغة قانون العدالة الانتقاليّة باعتبار إقصائه من المجلس التّأسيسي للمدى الزّمني للعدالة الانتقاليّة الذي أدرج فترة تأسيس دولة الاستقلال ورموزها على محكّ الحقيقة والكرامة والتّحقيق في الانتهاكات التي طالت ضحايا تلك المرحلة وما يقتضيه ذلك من خلخلة سرديّات عملت دولة الاستقلال على ترسيخها وتعميدها باعتبارها سرديّة وطنيّة رسميّة من طرف نخبة من المؤرخين. لم يغفر الدّستوريّون لرئيسة الهيئة نبشها في انتهاكات دولة الاستقلال ونظامها وحزبها الحاكم خاصّة تلك التي طالت ملفّات شديدة الحساسيّة كالموقف من المقاومين بعد إمضاء اتفاقية الاستقلال الدّاخلي والموقف من هذه الاتفاقية ذاتها ومن المتحفظين عليها وما لحقهم من انتهاكات جسيمة وصلت حدّ الاغتيال… كلّ ذلك ألّب على الهيئة ورئيستها تيّارا سياسيّا داخل البلد تمكّن بسبب السياقات السياسيّة الملتبسة من الوصول إلى الحكم وجعل من مناهضة رئيسة الهيئة واستهدافها على رأس أولويّاته… استهداف لشخصها قصد تخريب مسار العدالة الانتقاليّة الذي كانت جدار الصدّ الذي تلقّى الضّربات المتتالية لحمايته.

رفض تيّار واسع من خصوم أوسع شريحة من الضّحايا “الإسلاميّون” لمسار العدالة الانتقاليّة باعتبار أنّهم بزعمهم أكبر مستفيد منه… لقد ركّزت سرديّات السّلطة قبل الثّورة وتيّار واسع من النّخب بعد الثّورة على اتّهام الإسلاميّين بالعنف والإرهاب والتطرّف والظّلاميّة، وكان هناك خشية من تبييضهم وإخراجهم في صورة الضّحايا وإسقاط السرديّة التي وقع الاشتغال عليها طيلة عقود بما يوفّر لهم رصيدا حقوقيّا ومظلومية قابلة للاستثمار السياسيّ، فحاولوا بكلّ الأشكال الالتفاف على عمل الهيئة وتوجيهه واحتوائه من الدّاخل ومحاربته من الخارج باستهداف رئيسته وابتزازها واتّهامها بتنفيذ أجندات تيّار الإسلام السياسي لتبرئتهم وتضخيم معاناتهم مقابل تقزيم معاناة غيرهم…

•رفض كلّ الذين كانوا طرفا في الانتهاكات والفساد عمل الهيئة وشكّكوا فيه وحاولوا إجهاضه وقطع الطّريق عليه… أمّا الضّحايا فقد انتقد بعضهم بطء عمل الهيئة وشكّكوا في مصداقيّة رئيستها ونزاهتها واتّهموها بالوقوع تحت تأثير الضّغوطات… وعمل بعض المغرضين على شحنهم وتضليلهم… فضلا عن تأثير سياسة التّوافق على إضعاف المسار.

• لكنّ الهيئة مارست مهامها بقبول ملفّات الضحايا والاستماع لهم وتنظيم جلسات استماع علنيّة… وأنهت مهامّها رغم كلّ محاولات الإرباك والتّخريب وتوّجتها بإصدار تقريرها الختاميّ وتمكين الضّحايا من مقرّرات جبر الضرّر وتقديم ملفّات قضائيّة للانتهاكات الجسيمة أحيلت على دوائر قضائيّة متخصّصة انتصبت للسّماعات… كلّ ذلك كان صدمة لمناهضي عمل الهيئة حمّلوا وزرها لرئيستها التي لولا عنادها وإصرارها لأجهض المسار برمّته.

• لم تكن الرّئاسات الثلاثة لتقبل بالإشراف على تتويج عمل الهيئة رغم أنّها مؤسّسة من مؤسّسات الدّولة فكان الخيار هو اللّجوء إلى المنظمات الوطنية وكان التتويج بعرض التّقرير في نسخته الختاميّة غير النهائيّة ككلّ التقارير التي تقدّم في الآجال القانونيّة وتنفتح على إصلاحات وتعديلات غير جوهريّة…

التقرير عمل بشريّ أنجز في أجواء من القصف والاشتباك اليومي وهو قابل للنقد والتقييم… لكن صدوره لم يُرض الفئات سالفة الذّكر التي ناهضت أو تحفّظت طيلة سنوات على عمل الهيئة ودعت لعدم نشره في الرّائد الرسميّ وحرصت على ذلك… وبقي التقرير معلّقا حتّى قيّضت له الأقدار أحد الوطنيّين الشّرفاء “الأستاذ العيّاشي الهمّامي وزير حقوق الإنسان في حكومة الفخفاخ” ليتّخذ قرار نشره وتذهب كلّ محاولات إسقاطه أدراج الرّياح… ولم يبق إلّا الانتقام من رئيسة الهيئة والتنكيل بها وسحلها إعلاميّا وسياسيّا وجرّها إلى المحاكم وإيداعها السّجن بدعوى تدليسها للتّقرير لمجرّد أدخال تعديلات عليه قبل نشره بشكل رسميّ.

سهام سيّدة عنيدة وقويّة وقاسية أحيانا وممتلئة بتجربتها النّضاليّة ورصيدها الحقوقي ومترفعة على خصومها لكنّها سيّدة رقيقة وعميقة وجدانيّا وإنسانيّا وصادقة في مبادئها وإيمانها بالحقوق… ووجودها في السّجن بشبهة ملتبسة أمر لا يليق بالبلد وصورته في العالم… لم ترتكب في حقّ البلد ما يسيء لأيّ جهة كانت… “والظلم ربّي ما يسمحش بيه” كما ورد في نصّ تصريحها وهي تخوض إضراب الجوع لرفع المظلمة التي سلّطت عليها…

كلّ التّضامن سيّدتي المحترمة وأنت قد تجاوزت عقدك السّابع تخوضين معركة الأمعاء الخاوية بعد تجربة نضال حقوقيّ متقدّمة تصدّرتِ خوضها بكلّ ما تحتاجه من إصرار وعزم وعناد…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock