كيف نفهم انتصار ترامب مجدداً؟

“شعب كبير ينتخب رئيساً صغيراً.” جوزيه ساراماغو

توفيق بوعشرين

أمريكا التي صوتت قبل 16 سنة لأقصى اليسار، واختارت أستاذاً جامعياً أسود ليصبح رئيساً، هي نفسها أمريكا التي صوتت أمس الثلاثاء لأقصى اليمين، وانتخبت مليارديراً أبيض شعبوياً يلاحقه طيف من التهم المالية والجنائية ليصبح الرئيس الـ47 للولايات المتحدة. وكما أثار العالم بحملته الصاخبة وسعيه لرئاسة أقوى دولة، ها هو دونالد ترامب يحيّر المراقبين في تفسير فوزه الكاسح على مرشحة المؤسسة الأميركية، كامالا هاريس، مكذباً كل التوقعات التي كانت تبشّر بفوزها. هذا رغم أن الأميركيين يعرفونه جيداً وجرّبوه قبل أربع سنوات، وذاقوا آثار أخطائه وفوضاه وتعامله الكارثي مع أزمة كوفيد لكن الاقتصاد لعب لعبته المألوفة، أوضاع الأمريكيين ساءت مع جو المتعب، وكاملا بلا كاريزما، وأمريكا ليست مهيئة بعد لان تضع امرأة في أقوى كرسي حكم في العالم، وإضافة إلى هذا استطاع ترامب أن يلعب على شعور الأمريكيين المحافظين الذين اصبحوا يتدمرون من أجندة الديمقراطيين الجندرية وتشجيع المثلية.

ترامب

من التفسيرات التي تساعد على فهم هذا التصويت “الغريب” للأميركيين تتلخص في الأسباب التالية:

1. الديمقراطية ليست نظاماً مثالياً

عاد ترامب وأنصاره، الذين ينحدر أغلبهم من البيض المتعصبين الطامحين لاستعادة أمجاد متخيلة تحت شعار “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، إلى قلب القرار الأميركي عبر أبواب عيوب الديمقراطية التمثيلية. فرغم أن الديمقراطية هي أفضل نظام أنتجه البشر حتى الآن لإدارة السلطة والثروة، إلا أن هذا النظام ليس محصّناً ضد المال السياسي، الشعبوية، التطرّف، العنصرية، والتصويت غير العقلاني، خاصة في أوقات الأزمات. فقد انفصلت الديمقراطية كآلية عن الليبرالية كفلسفة، وولّدت تصويتاً عقابياً ضد مؤسسات الدولة الأميركية، وهو تصويت قد يؤدي إلى كوارث، كما حدث في ألمانيا وإيطاليا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. ومع ذلك، تظل الديمقراطية قادرة على تصحيح أخطائها بمرور الوقت، على عكس الديكتاتورية التي تعايش أخطاءها حتى تُدمر البلاد والعباد.

2. الكراهية السياسية تبيع، والخوف يغني عن الإقناع

كل ما عرضه دونالد ترامب على الناخب الأميركي هو الكراهية تجاه المهاجرين، الأقليات، السود، المسلمين، النساء، الشركات الكبرى التي ترحل صناعتها خارج البلاد ، الطبقة التقليدية في واشنطن، والصين. ووجد العديد من المواطنين البيض الأقل تعليماً والأقل دخلاً، خاصة في الولايات الداخلية المحافظة، في ترامب صوتاً يعبر عما لا يستطيعون قوله تجاه قضايا حساسة. فمالوا إليه، مصدقين أنه قد يكون السياسي العفوي الصادق. وقد أسهمت محاكمته وتعرضه لمحاولات اغتيال في منحه تعاطفاً شعبياً، حيث رأى مؤيدوه في مثوله أمام القضاء وفي الحادثة التي نزف فيها من أذنه أمام الكاميرات دليلًا على “مكرمات إلهية” حسب وصف أحدهم، مؤمناً بأن نجاته كانت لحكمة إلهية، ليقوم بمهمة مقدسة.

3. الإعلام الجديد يهزم الإعلام التقليدي مرة أخرى

صُدمت وسائل الإعلام التقليدية (مثل واشنطن بوست، نيويورك تايمز، CNN وCBS) بفوز ترامب مجدداً رغم أنها تمثل الأوساط الليبرالية والطبقات الوسطى، ورغم انتقادها المكثف له، إذ لم تستطع أن تهزم شعبوياً من خارج المؤسسة الرسمية. في المقابل، استطاع ترامب التواصل مباشرة مع الناخبين من خلال تدوينات صغيرة في الإعلام الجديد وخطب لاذعة. لم تستطع وسائل الإعلام الليبرالية، ومعها مراكز البحث والتفكير واستطلاعات الرأي، إيقاف زحفه نحو صناديق الاقتراع. هذا التحوّل السياسي والإعلامي يشير إلى بداية عهد جديد، حيث قد تفقد الصحافة التقليدية بريقها أمام قوة الهواتف الذكية، اللوحات الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي.

الناس لا يبحثون غالباً عن الحقائق، بل عمّا يوافق أهواءهم. من صوتوا لدونالد ترامب للمرة الثانية لم ولن يدققوا في حقيقته، بل كانوا يسقطون رغباتهم عليه، ويرونه مخلصاً. وعدهم بخلق ملايين من فرص العمل عبر ترحيل 11 مليون مهاجر غير قانوني، وبناء سور طويل مع المكسيك، وفرض عقوبات على الشركات التي ترحل صناعاتها خارج البلاد. هذا الكلام الذي قد يبدو غير منطقي، وجد للأسف من يصدقه، وقد رأينا الأميركيين يصوتون له بكثافة.

رغم أن من المبكر التنبؤ بملامح سياسة ترامب الجديدة، وما إذا كان سيتعلم من أخطاء الولاية الأولى أو سيعود إلى الفوضى التي سادت حينها، إلا أن من المتوقع أن يتعمق الاتجاه الانعزالي لأميركا، وأن تنسحب من بؤر التوتر في العالم، وتعتمد على التهديد والصفقات بدلاً من الدبلوماسية. ومن غير المرجح أن تهتم بالقضايا المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، والتغير المناخي، والقانون الدولي.

ولا يمكن أن نعرف ما إذا كان سيوقف جنون إسرائيل في غزة ولبنان، أم انه سيواصل دعم النسخة البربرية من ناتنياهو كما فعل في ولايته القديمة خاصة وأنه الآن مدين للمال السياسي الذي دعمه ومدين لأكثر من اتجاه صهيوني في أمريكا ساهم في نجاحه.

روسيا فرحة، أوروبا مكتئبة، الصين حذرة، ايران متوجسة، غزة نازفة وغير متفائلة، ولبنان جريح، والنظام الدولي يزداد ترنحا وحدهم الشعبويون سيحتفلون مع ترامب هذا المساء بفتح قنينات الشامبانيا …

ختاماً، قال الأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1998، عن الشعب الأميركي: “إنه شعب كبير، يميل غالباً إلى انتخاب رؤساء صغار.”

Exit mobile version