فتحي الشوك
جميع الشّعوب، جميع الأمم تمجّد أبطالها، تكتب قصصهم تخلّدها وتلقّنها لأجيالها.
حتّى تلك الّتي لم تجد أبطالا توجدهم وتنسج لهم سيناريوهات من خيالها.
جميعهم يحفرون في تراثهم بحثا عن البطولات والملاحم والأيقونات ويستحضرونها في المناسبات والمراسم وفي كتبهم المدرسية وفي أسماء شوارعهم والمحطّات والمعالم، جميعهم يصنعون الأيقونات والقدوات وينحتونها في الذّاكرة الجمعية عبر مناهج التّعليم والمناسبات الوطنية والأعمال الفنّية ويفرضون احترامها إلى حدّ التقديس.
جميعهم يحترمون أبطالهم أو من يعتبرونهم أبطالهم، من ساهم في بناء الوطن أو الأمّة، من دافع عنه، من مات يقاتل في سبيله، من قاد معركة واستبسل فيها، من أنقذ، من أسعف، من أطعم، من مات تحت التعذيب أو جوعا ولم يخن، من صنع سلاحا، من اخترق العدوّ وسرّب معلومات عجّلت بالنّصر.
جميعهم يتلقّفون ولو نواة قصّة ليضخّموها ويزيّنوها ويحوّلوها الى أسطورة وملحمة ملهمة.
جميعهم يفعلون ذلك سوانا نحن! بالرّغم من أنّ تاريخنا مليء بتلك القصص وحاضرنا لحسن حظّنا يتيح لنا مشاهدة البعض منها على المباشر دون الحاجة الى كاتب فذّ يثريها ويهذّبها أو مخرج سينمائي يضخّمها.
قصص حقيقيّة وأبطال حقيقيّون يبرزون من بطن الأرض ومن بين الحطام، بعضهم حفاة، بسلاح بسيط من صنعهم يمرّغون أنف أعتى قوّة غاشمة وجدت على ظهر البسيطة، يفعلون ذلك وقد حاصرهم الصّديق قبل العدوّ، وتآمر عليهم الجميع، ومورس فيهم كلّ أنواع القتل.
خدّج ورضّع وأطفال طووا الزّمن فصاروا رجالا، ونساء عفيفات يلقّنّ أشباه الرّجال دروسا في الشّرف والمروءة والصّمود والثّبات.
قادة يتصدّرون قوائم الشّهداء، وزعيم يستشهد وهو يقاتل، مقبلا غير مدبر، ليرمي عصاه فيلتقطها الرّماة.
قصص وملاحم حقيقية وأيقونات أصيلة لا تحتاج للتّهذيب أو التّمتين أو التّضخيم، جاهزة للقراءة والمشاهدة فلا نقرؤها ونغمض العيون ونفتحها لمشاهدة أفلامهم بحثا عن أبطالهم، من سحقونا وأذلّونا واستوطنوا عقولنا.
هل هي عقدة نقص عميقة ومركّبة أو جلد ذات مرضي لشعوب مصابة بالمازوخية ومتلازمة ستوكهولم؟
أم مجموعة من العقد المستفحلة المكبّلة لشعوب أدمنت على الخضوع والذلّ وتطبّعت به لتبلغ درجة من الهوان والعجز ما تعجز الكلمات عن وصفه؟
شعوب مهزومة، مكسورة، مقهورة، مقموعة، خاضعة، خانعة، راضية بواقعها التّعيس وكأنّه قدر محتوم تستلذّ بما هي فيه وتطلب المزيد.
والغريب والعجيب أنّ البعض لا يكتفي بالتّجاهل والصّمت المريب بل يتجاوزه إلى التواطئ والتآمر والمشاركة بالتثبيط والتخذيل والترذيل وتحميل المقاومة مسؤولية ما يجري من جرائم وإبادة في حقّ الأبرياء، وكأنّ الطّوفان كان وليد اللّحظة ولم يكن نتيجة عقود من الظّلم والقتل والاحتلال، وكأنّ على المغتصَب أن يستسلم للمغتصِب ويستمتع بذلك!
لم يكتف المرجفون بذلك بل حاولوا تشويه وتدنيس كلّ تلك القدوات والأيقونات والزّعامات الحقيقية الّتي تبرز وتزهر طبيعيّا مقابل تقديس تلك المشوّهة المصطنعة الهجينة المحلّية والمستوردة باسم الدّين والعقلانية والبراغماتية وكلّ العناوين المضلّلة.
أرعبتهم صورة السّنوار، والزّعماء وهم يستشهدون والنّساء والأطفال الصّامدون وتلك المقاومة البطولية الأسطورية وذاك الوعي الّذي فجّره الطّوفان، وعي بأنّ تغيير واقع البؤس والذلّ والهزيمة والانكسار ممكن وبأنّ التحرّر ممكن وبأنّ التحرير كذلك ممكن.
تهافتوا جميعا لكيّ هذا الوعي ومكروا مكرا تزول منه الجبال، وكأنّهم يعتقدون بأنّ بإمكانهم التصدّي لمدّ الطّوفان أو إيقاف عجلة التّاريخ الّذي لم يقرؤوه.
سيكنسهم الطّوفان وستدعسهم عجلة التّاريخ.
د. محمّد فتحي الشوك