تدوينات تونسية

قيامة يحيى

نور الدين الغيلوفي

انفجرت الأرض وانفرجت القبور عمّا فيها وكان الحشر. انفصل المكان عن الزمان. كانت القيامة يوما طويلا وثقيلا. عيشت فيه أهوال ما رأتها الأرض من يوم خلقها إلى يوم نسفها. في لحظة ليست من زمن البشر نوديَ في المحشر فجاء كلّ مخلوق فردًا وذهب إلى مستودعه يدفع ما عليه أو يجني ما له.

يـحيى السنوار
يـحيى السنوار

انفضّ الجميع ولم يبق غيرُ أشخاص قليل.. نقاط سوداء أشبه بما يبقيه الذباب على جدار ناصع البياض حطّ عليه.. تدنو الصورة فتسفر عن رجال عُراة غرقوا في عرقهم.. وتدنو فتبدو وجوه كالحة عليها شعور شعثاء بلون الرماد.. كروش مترهّلة تعدّدت طيّاتُها وأرداف رخوة من كثرة القعود وقلّة النشاط.. عيون جاحظة.. وأفواه فاغرة تخرج منها ألسنةٌ مثلُ ألسنة كلاب لاهثة.. وجوارح تضطرب كأنّ بينها خصامًا.. تدنو الصورة أكثر.. هم أولاء رؤساءُ دولِ العرب وسلاطينُها وأمراؤها وملوكها وولاة عهودها ورؤساء حكوماتها ووزراء داخليتها ووزراء دفاعها ووزراء عدلها ورؤساء مخابراتها وقادةُ جيوشها جاؤوا بنياشينهم على أكتافهم العارية، وجميعهم من الذين أدركهم طوفان الأقصى في زمان الأرض الأخير.. حُشر هؤلاء جميعا في صعيد واحد عراةً لا فارق بينهم غير وجوههم التي كان الناس يرونها على الشاشات فيعرفونهم بها.. بلا مساحيق.. شفاههم منفرجة وأسنانهم صفراء حول أعناقهم حبال معقودة.. جميعهم واجمون وإذا تحرّكوا يعرجون.

ظهرت تلك الوجوه وعَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ تنتظر في خوف اليائسين.. حشر هؤلاء واقفين يشاهدون شاشة تمتدّ على مرمى البصر.. الشاشة واحدة وكلّ من هؤلاء يرى عليها تفاصيلَ حياته التي عاشها فوق الأرض من يوم ولدته أمُّه ولم يعِ إلى يوم مماته.. الشاشة واحدة ولكنّ كلّ واحد منهم يرى عليها فيلمه الخاصّ به، إلّا ما تقاطع بينهم في حياتهم السابقة.

وفي آخر جميع الأفلام التي مداها الزمنيّ واحد يظهر عليهم الفتى يحيى بالصورة التي غادر الأرض عليها جالسا على كرسيّه وهم وقوف بين يديه، بيده عصاه ولا شيء بأيديهم، لقد استهلكوا عصيَّهم في ظهور شعوبهم.. كان يحيى بلثامه بينما كانوا هم عراةً.. تنبت يده اليمنى أمامهم فيقبضها ويمدّها.. يميط لثامه عن وجهه بها.. وجبت قلوبهم جميعا حينما عرفوه وجيبا سمعه يحيى.. هرشتهم أعينهم جميعها غير أنّهم لم يجدوا حولا لحكّها ليحسنوا النظر.. جوارحهم لا تطيعهم وأيديهم مقبوضة بذاتها. أرادوا أن يخرّوا على رُكبهم فلم يستطيعوا.. أبت رُكَبُهم أن تستجيب لهم.. تمنّى كلّ واحد منهم لو أنّ الأرض تفتح له، من جديد، قبره ليعود إليه من فرط الهلع.. نظر الفتى يحيى إليهم بشفقة يخالطها احتقار مشمئزّ.. ولم ينطق.

سُمع صوت منبعث من كلّ الأرجاء هزّهم هزّا
– يا يحيى.. تركنا لك الحكم عليهم في حضرة العدل المطلق
سألهم:
– ماذا ترونني فاعلا بكم؟
– أخ كريم وابن أخ كريم.
اتّسعت نظرته من احتقار.. ضحك من قولهم. ذاك رسول الله أعتقكم فلم تنعتقوا.. عندها تجلّى له وجه النبيّ في نظرة حانية.
قال لهم:
– لا كذب في الآخرة، أفلا ترون أنّ كذب الكذّابين، هنا، يُرى ما يكذبون؟
انفجرت صيحة عالية من كلّ الأرجاء ارتجّ لها الواقفون.. كانت شعوب العرب تشهد المشهد. ولمّا سمعت أقوالهم انفجرت صيحتها الواحدة.
تقدّم من بين الشعوب طفل قطع الأعداءُ في حرب غزّة رأسه ولم يجده أهله حين دفنوه.. ألقى إليه يحيى بعصاه وتولّى.
تقدّم إليهم الصبيّ يهشّ عليهم بعصاه فتحرّكوا مثل قطيع عرف طريق حظيرته.
سُمع صوت الشعوب تخاطب يحيى:
– لا تَدَعْهُمْ يا يحيى، إنّك إن تدَعهم.. وأضربوا عن تمام الكلام…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock