فتحي الشوك
اعتذر الرّجل الّذي أنشد القرآن الكريم على نقرات القانون وأطنب في الاعتذار ومازالت حملات التّشهير تطاله بلا شفقة، وسياط الجلّادين تنهال عليه من كلّ صوب، فيا من كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس أليس الاعتذار من شيم الكبار؟
كان أولى على من برمج وبثّ المقطع على تلفزة عمومية تتمعّش من جيوبنا، لا أن تعتذر فقط بل أن يستقيل المسؤولون بسبب ما جرى، وهم يعلمون ما سينجرّ عن فعلتهم والّتي هي قد تكون مقصودة للإلهاء والاستفزاز واستنفار جمهور يسهل استثارته وتوجيهه.
ربّ ضارّة نافعة
لا أشكّ في صدق نوايا الغالبيّة العظمى ممًن تداعوا للدّفاع عن قدسيّة النصّ القرآني وهم يعتقدون أنّها انتهكت لكنّني كفرد أتساءل هل انتهكت إلى ذاك الحدّ الّذي صوّره بعض حرّاس القداسة والعقيدة في الدّاخل والخارج إلى درجة المطالبة بالتّكفير وإقامة الحدّ؟
هل أخطأ الرّجل في نطق المفردات أو غيّر المعنى؟
أنشدت بعض آيات القرآن فيما سبق وكان ذلك دون عزف ولكن ربّ ضارّة نافعة، نقرات القانون جعلت الآية تطرق مسامع البعض وتستفزّ عواطفهم الجيّاشة فهل ستستثير عقولهم؟
هل سيسعون لأن يكونوا خير أمّة أخرجت للنّاس ويوفّرون شروط تحقّق ذلك بالدّعوة إلى المعروف والنّهي عن المنكر؟
أليست تلك دعوة لتحمّل المسؤولية في تغيير الواقع والمشاركة في الحياة العامّة؟
أين هؤلاء من الدّعوة إلى المعروف والنّهي على المنكر وفيهم من ينصر ظالما ويحرّم مساءلة وليّ الأمر أو أن يكون له رأي في الشّأن العام؟
أين هؤلاء من انتهاك قدسيّة الروح البشرية في غزّة بالإبادة وفي جميع صحاري التسلّط من المحيط إلى الخليج بالاستباحة والاستبداد؟
جميلة هذه الصّدمة الّتي قد تدفعنا إلى إعادة قراءة ما نزل من القرآن الكريم، فلنقرأه كما أمرنا بأوّل أمر أنزل فيه، باسم ربّنا الّذي خلق، بالموضوعية الّتي تجب لا بذواتنا وكما نحب.
هل نحن الآن خير أمّة أخرجت للنّاس؟
كنّا كذلك ولا شكّ والتّاريخ يشهد حينما كنّا من كتّابه لأنّنا كنّا نقرأ وانحططنا وهوينا الى القاع وصرنا هوامش بلا فائدة على ديباجة التاريخ حين تخلّينا عن القراءة.
إعجاز القرآن وقدسيّته وبرهان كونه وحيا يتجاوز العقل النّسبي وصالح لكلّ مكان وزمان أنّ النّص مطلق ثابت والمعنى نسبيّ متغيّر.
أمرنا بالقراءة، وهو أمّ الأوامر، قراءة منتجة تبحث عن المعنى ويترسّب من خلالها لذواتنا فهما نظريا نسعى إلى جعله تطبيقات عملية تتجلّى في سلوكنا وحياتنا ومجتمعاتنا.
قراءة حيّة تنتج حياة، لا قراءة ميّتة خشبية متكلّسة أو قراءة ببّاغاوات؟
ليس المطلوب أن نقرأ ما تفهمه عقولهم، ففهمهم نسبيّ خارج دائرة المقدّس وقابل للنّقد وللنّقاش.
من المطلوب أن تكون لنا قراءتنا وفهمنا حسب معطيات مكاننا وزماننا، لا أن نكتفي بما فهمه السّلف فتلك اجتهاداته وإضافاته الحميدة فأين اجتهاداتنا وإضافاتنا الّتي سنتركها للخلف؟
وهذا لا يعني أن نحاول اكتشاف العجلة من جديد فعبث فعل ذلك وواجب التعامل مع التّراث كإرث معرفي يمكن تنقيته واستخلاص منه ما يفيد لحظتنا الرّاهنة والبناء عليه، لتكون لنا قراءتنا ومساهمتنا المستجيبة لاحتياجاتنا والمجيبة للأسئلة الملحّة الّتي يطرحها عصرنا.
وأعتقد أنّ بداية انحطاطنا تعود إلى لحظة مطاردة ابن رشد وحرقه لكتبه وتمزيق المغول لكتب بغداد ورميها في دجلة والفرات لتمتزج بالدّماء ومنذ تلك الفترة صرنا أمّة في غالبيتها لا تقرأ.
جميلة هذه الصّدفة الّتي جعلتنا نستحضر آية ممّا نزل من القرآن والأجمل أن نفهمها ونعمل على تحقّقها بتوفير شروطها وتلك معادلة لم تحل بعد بدليل واقع الأمّة الّتي تعيش اقصى درجات انحطاطها، وقد يكون بداية حلّ الشفرة في العودة الى أوّل ما نزل من القرآن وتطبيق الأمر الربّاني بالقراءة المنتجة المستنيرة النّاجعة.
د. محمّد فتحي الشوك