في معالجة النموذج الاقتصادي الفاسد للإعلام التونسي

كمال الشارني 

“نقيب الصحفيين: 80% من المؤسسات الإعلامية ستغلق أبوابها لأسباب اقتصادية”، الأسباب والحلول والأسئلة الحقيقية.

الصحافة

جوابا على هذه الحقيقة المفزعة، ثمة من بلغ به العبث حد القول: لقد ثبت لنا أننا يمكن أن نستمر في الحياة دون حاجة إلى الصحافة، بل ربما اختفاؤها سيريحنا من المشاعر السلبية التي يفرضها علينا هذا الإعلام، والحقيقة أن فشل جزء كبير من الصحافة التونسية لا علاقة له بحاجة الناس الإنسانية الغريزية للتواصل وللمعرفة ومحاولة “إعطاء معنى لما يحدث” في الفضاء العام كما صوره فلاسفة اليونان في مفهوم الأغورا، وعند غياب الإعلام الوطني سوف يذهب الناس إلى مصادر إعلام أخرى، عندها أجندات أخرى، زاوية تناول ليست بالضرورة في مصلحة البلاد، إنما:

• منذ زمن بعيد، بالعين المجردة يمكن أن تحسب الكلفة المالية لـ “بلاتوه” في تلفزة خاصة وتنظر في مداخيل الإشهار الهزيلة لتدرك أن الأمور لا تقابل بعضها لا عنده ولا عند غيره، إذن من يدفع لاستمرار الكثير من وسائل الإعلام وخصوصا: مقابل أي ثمن؟

• جزء كبير من الإعلام التونسي قام على “نموذج اقتصادي في الاحتطاب” يبدأ من الرخصة الإسمية التي يحتكر الحاكم إسنادها بصفة مكافأة لأحد الموالين له لمدحه مجانا وشتم خصومه بمقابل وفتح سبالة القروض والدعم والإشهار العمومي أمامه حتى أن بعض رواد هذا النموذج كان يرسل العاملين لديه (ليس فيهم واحد يحمل بطاقة احتراف صحفي) للبحث عن الأموال مقابل مقالات مديح أو شتم مقابل التضييق على التجارب الصحفية الجادة وحتى التجارية التي حاولت النجاح بالمقاييس الاقتصادية للسوق، يعني البلاد حرمت حتى من مراكمة الخبرة والتجربة في قيادة مؤسسات إعلامية متوازنة.

• النموذج الاقتصادي للمؤسسة الإعلامية المعروف عالميا يقوم على تأشيرة إصدار لشركة فيها مجلس إدارة ذو مسؤولية محدودة وليس شخصا يمكن للحاكم أن يبتزه بالعقوبات السجنية والهرسلة الشخصية، مجلس الإدارة يرسم السياسات العامة للمؤسسة ويحترم الاختصاص فلا يتدخل في التحرير، المجلس يعتمد دراسة سوق عادية، تنتج ماذا لأي جمهور وبأي ثمن، ثم يكلف شخصا تتوفر فيه شروط رئاسة التحرير (في تونس، وفق ملاحق قانون الشغل: 17 عاما من الممارسة المستمرة والترقيات العادية دون عقوبات مخلة بالشرف)، رئيس التحرير يقدم إلى مجلس الإدارة خطة عمل وانتداب وتأطير وإنتاج تمتد إلى ثلاثة أعوام ويحاسب دوريا على تنفيذ وعوده كل ثلاثة أشهر.

• ما هو رائج في بر تونس أن “رخصة المؤسسة الإعلامية” باسم “المعلم” الذي هو رئيس التحرير والمحرر والذي ينتدب الكرانكة والمعلقين والمنشطين والمنتجين ويفرض عليهم خياراته ورؤيته لا أحد يسأله عن شيء أو عن مصدر الأموال، عادة يدفع أقل الأجور والضمانات الاجتماعية للصحفيين وهذا يشبه، اقتصاديا، أن تؤسس مصحة وتقرر أنت بصفتك صاحبها فحص المرضى وإجراء العمليات الجراحية بنفسك أو أن تكلف الحارس بمساعدتك في تنفيذ بعض العمليات الجراحية، أو أن يقول لكل من يعمل في المصحة: عليكم جلب المرضى لتحصلوا على نسبة مما يدفعونه أجورا لكم، اسمها في الصحافة جلب سبونسر “مستشهر”، أي سمسروا؟

• ثمة مقولة يروجها الذين لا علاقة لهم بالإعلام مفادها أن المؤسسة الإعلامية لا يمكن أن تكون مربحة ماليا خصوصا في مجتمع صغير وفقير اقتصاديا مثل تونس أو أن زمن الصحافة المحترفة انتهى وبدأ زمن التواصل الاجتماعي وهذا يدل فقط على عدم الاختصاص والفشل وضيق الرؤية، لأن العالم ما يزال يعيش على الإعلام المحترف ومليء بالتجارب الناجحة، أنموذج مؤسسة ميديا بارت الفرنسية المتخصصة في الاستقصاء الصحفي أول درس على إمكانية الربح الجيد من العمل الجيد المختص، لقد قال الدخلاء على مهنة الصحافة عندما ظهرت الإذاعة أنها ستقضي على الصحافة الورقية، قيل ذلك أيضا عندما ظهر التلفزيون والنقل المباشر كما قيل عندما ظهرت الأنترنيت والآن مواقع التواصل الاجتماعي، كل ما في الأمر أن مهنة الصحافة تعلمت كيف تتأقلم وتتطور لتحافظ على دورها الرئيسي “إعطاء معنى للأحداث”.

Exit mobile version