كمال الشارني
- فجر 2011، حلمت بمؤسسة صحفية تعاونية على غرار “united artists” في السينما الأمريكية، يؤسسها صحفيون محترفون بمدخراتهم المالية البسيطة أو حتى بقروض، المهم أن لا يخضع الصحفيون في عملهم الصناعي اليومي إلى ضغوط أو ابتزاز الإشهار والتحالفات التجارية والسياسية، حقيقة: يصعب جمع خمسة صحفيين تونسيين دون أن يكون لأحدهم ثغرة قوادة، طمع في تعيين أو وجاهة أو مكافأة أو رحلة مع وزير أو قطعة أرض، تربّوا على ذلك منذ عقود.
-
منذ 2011 دخلت مع “رجال أعمال” بين خمسة وعشرة مشاريع صحفية، لم يصح منها شيء، كان عندي التزام حوالي 15 صحفيا جيدا يمكنهم تغيير واقع الإعلام في تونس، لو توفر لهم الحد الأدنى من الكرامة، أحد رجال الأعمال “اللاهبين” على سلطة إعلامية قال لي ساخرا من مقترحي بأجر أدنى 1500 دينار شهريا صافية للصحفي: “أنجم نخدم بها ثلاثة صحفيين باهين” كان عليه أن يكتشف بالوجع معنى “باهين”؟ بدد أكثر من 180 ألف دينار على صحفيين “بو ربع دجاج وسكرة” ولاحقهم بين الحانات ومصالحهم الأكثر منفعة إلى أن يئسوا من فلوسه فهجروه.
-
أنفق الكثير من رجال الأعمال والسياسة أموالا طائلة على مشاريع صحفية وهمية، ينقصها الحد الأدنى: “صحفيون حقيقيون”، يعرفون مهنتهم، أحدهم قدم لي شخصا كان موظفا في الداخلية، باكالوريا إلا أربعة، لم يقرأ حتى بطاقة تعريفه تم طرده في قضية فساد على على أنه رئيس تحرير، كان يدفع له 3 آلاف دينار شهريا وسيارة؟ بقانون الشغل: يحتاج الصحفي 17 عاما ليصبح رئيس تحرير.
-
في تلك الفترة، انتشرت فكرة أن الصحافة ليست مهنة ولا علما، بل موهبة وعلاقات، لكن لا أحد منهم كان يفرق حتى بين الخبر والتعليق، لا أحد منهم كان يعتقد بوجود تراث علمي أكاديمي للصحافة يمتد على مائتي عام.
-
مازلت أعتقد أن جماعة النهضة كانوا أكثر الناس جهلا بمهنة الصحافة ودورها الصناعي وبالصحفيين أصلا، يكفي حضورهم للرقص في عرس ذلك المنشط المحتال السخيف، من معرفتهم في الأجواد يعرفون بوسعدية، بحثا عماذا؟ عن اعتراف لص بحقهم في الحضور الإعلامي؟
-
ما حدث على مدى عشرة أعوام أنه لا أحد من السياسيين قرر تطبيق القانون على وسائل الإعلام: من أين تعيش؟ كيف تنفق على نفسها وعلى “الكرانكة” ذوي الأجور الفاحشة، كان يكفي إرسال متفقد الشغل لإغلاق أكبر مؤسسة إعلامية، هناك السر في تسميم الإعلام التونسي.
-
حين تعتبر صحفيي بلادك مجرد مداحين وقوادين وتغريهم بمنافع وامتيازات الدولة فأنت تربّي ضباعا لن تتردد في أكل لحمك وأنت حيّ حين تتوقف عن الإنفاق عليها، قال شفيق الجراية: شدي علي كلابك.
-
لكن، لتذهب إلى الجحيم أنت وكلابك، الخطر ليس هناك، بل في فقدان مهنة الصحافة لدورها، حيث يذهب الناس إلى مصادر إخبار مسمومة، تنفق آلاف مما قد تنفقه على إعلام صناعي نزيه لتدميرك.
-
أخيرا: عندي 35 عاما من مهنة الصحافة، أنا أنتظر التقاعد بشوق، عندي ألف شيء آخر أحب أن أتفرغ له، عكس ما يتوقعه المنطق من وجوب أن أمرر خبرتي للأجيال الموالية، أحب أن أغادر هذه المهنة بسبب التسمم العام فيها، أجواء غير قابلة للتحمل.