كلّ له “عبّاسه”

فتحي الشوك

في لحظة ثورية خارقة وأمام أعضاء البرلمان التركي يعلن الرّئيس محمود عباس عن نيّته التوجّه مع جميع أعضاء القيادة الفلسطينية إلى قطاع غزّة مبيّنا أنّ وجهته القادمة ستكون القدس الشّريف معقّبا بأنّ لا خيار ثالث لهم فإمّا النّصر أو الشهادة ليصفّق الحضور ويقف بعضهم تقديرا لهذا الموقف التّاريخي العظيم.

محمود عباس

هي لحظة جنون منفلتة صعدت به الى علوّ متخيّل شاهق لتهوي به إلى قاع واقعه المرير ليقول منكسرا وبمرارة: “نتبنّى المقاومة السّلمية فإمكانيتنا لا تتيح لنا أكثر من ذلك!”

لنطمئنّ ونسترجع عبّاس الّذي نعرفه، عبّاس الهزيمة والمذلّة والانكسار، عبّاس العاشق للسّلطة حتّى ولو كانت صوريّة، عبّاس الفاسد، الخائن والسّمسار، بعد أن أوهمنا في لحظة هذيان حنجورية أنّه تحوّل إلى شبيه للشّهيد هنية أو ربّما أصابته عدوى السّنوار!

عبّاس الّذي لا يستطيع قضاء حاجته إلا بإذن من المحتلّ يعلن أنّه سيذهب إلى غزّة بعد أربعين ألف شهيد ومائة ألف جريح وبعد كلّ تلك الإبادة والدّمار، لا وبل يضيف بأنّه سيتوجّه بعدها إلى القدس الشّريف، للّه درّك يا صلاح هذا الزمن التّعيس، لم تأخّر ظهورك إلى حدّ أن يئسنا منه؟ وعمرك بعمر الاحتلال قضيته في خدمته فكافأك بكرسيّ وهميّ وبعض الفتات نظير العمالة وتكريس الهزيمة وبيع الأوهام!

عبّاس هذا هو مثال نمطي لكلّ حكّامنا، شخصية مصابة بالقطبية، متأرجحة بين واقعيّة ذليلة منكسرة مستسلمة يائسة منهزمة وتابعة تنفّذ حرفيّا ما يملي عليها المحتلّ الخارجي، وبين لحظات منفلتة من الثورية الحنجوريّة الزّائفة تهذي فيها بالشّعارات الحارّة والجمل السّاخنة وتمارس غواية السذّج بالجمل المعلّبة المثيرة والغامضة والكثير من الصّراخ والطّنطنة.

كلّ له عبّاسه! وقد يختلف عبّاس عن آخر في مدى هيمنة أحد القطبين، إذ قد تسيطر الظّاهرة الحنجوريّة فيكون عبّاس حينها متمركزا حول ذاته، مصابا بجنون العظمة ومسكونا بهوس المؤامرة، فيغتصب المعاني السّامية ويزنا بالكلمات النبيلة الرّاقية في عمليّة طنّ حنك لتهييج وتجييش وتجحيش جمهور مخدّر مغيّب يستطيب مثل ذاك الخطاب العاطفي المزيّف ويطلب منه المزيد!

أمّا عبّاس “الواقعي” “العقلاني” “المتّزن” والمحتكم لمعطيات الممكن المحدّدة من قبل من مكّنوا له، فيمارس سلطة عقله المملاة من عقولهم ليقنع الآخرين بأن لا فائدة في استعمال عقولهم لتغيير واقع الهزيمة والانكسار ولا نجاة إلا في الخنوع والاستسلام.

وقد نجد عبّاس هنا وعبّاس هناك، وكلاهما بنفس الضّرر، وكلّ له “عبّاسه”.

د.محمّد فتحي الشوك

Exit mobile version