3 أوت عيد ميلاد الرئيس: عاش سلطانا ومات غريبا بين أهله

عبد السلام الككلي وعلي الجوابي

يقول التاريخ الرسمي أن الحبيب بورقيبة ولد يوم 3 أوت 1903 وقد كان خلال مدة حكمه يحتفل سنويا بعيد ميلاده بالمنستير بتنظيم عكاظية تدوم شهرا أو أكثر يشارك فيها شعراء الفصحى والشعراء الشعبيون من جميع ولايات الجمهورية وكانت تبثها التلفزة الوطنية.

الحبيب بورقيبة

الحبيب بورقيبة دائم الحضور إسما، صوتا وصورة

عمل الحبيب بورقيبة مع رفاقه في قيادة حركة التحرّر الوطني وكان له وفاق مع بعضهم وخلاف مع البعض الآخر وعندما استقلت الدولة التونسية تسلم مقاليد الحكم بصفة الوزير الأكبر ثمّ يوم 25 جويلية 1957 بعد إلغاء الملكية صار رئيس الدولة ورئيس الجمهورية بناء على قرار المجلس القومي التأسيسي وحزبيا اضطلع برئاسة الحزب الحر الدستوري الجديد الذي اصبح في مؤتمر بنزرت «الحزب الاشتراكي الدستوري».

كانت صورة الحبيب بورقيبة طيلة حكمه حاضرة باستمرار في شوارع المدن التونسية وأنهجها وفي القرى وكانت صورته مع صوته حاضرة في التلفزة الوطنية التي تخصص له الجزء الأول والأوفر من «نشرة الأخبار» باستعراض نشاطه اليومي وجولته الاعتيادية بضواحي المرسى اذا كان يقيم بالعاصمة وبصور سباحته في شواطئ المنستير في فصل الصيف أثناء احتفاله بعيد ميلاده فضلا عن تغطية واسعة لكل سفراته في الخارج.

كانت صورته حاضرة أيضا يوميا في وسائل الإعلام المكتوبة الحكومية والحزبية والمستقلة. ووضع له في العاصمة وفي مركز كلّ ولاية تمثال عليه حارس على ذمّته.

كان بورقيبة يطل يوميا على التونسيين في برنامج «من توجيهات الرئيس».

بورقيبة يموت وهو حي

ظل بورقيبة مهيمنا على مؤسسات الدولة وعلى الإعلام بصفته هذه الى فجر 7 نوفمبر 1987 حين استعمل الوزير الأول وقتها زين العابدين بن علي الفصل 57 من الدستور ليعلن نفسه رئيسا للجمهورية وحجته انه حصل شغور في منصب رئاسة الجمهورية بسبب عجز الحبيب بورقيبة التام عن ممارسة مهامه واستدل لذلك بشهادة طبية صادرة عن سبعة أطباء كان البعض منهم مقربين جدا من بورقيبة.

أشاد زين العابدين بن علي في بيانه في 7 نوفمبر بالأعمال الجليلة التي قام بها الحبيب بورقيبة في خدمة تونس لكن رغم هذه الإشادة غاب الرئيس تماما عن الفضاء العام لاسيما عن الإعلام العمومي اسما وصورة وصوتا وفرضت على الرجل العجوز والمريض إقامة جبرية في البلد الذي ولد فيه وأحبه غير بعيد عن مكان ولادته حومة الطرابلسية في المنستير. ومن أغرب ما حدث لبورقيبة انه كان يخيف بن علي حيا وميتا فقد حرم التونسيين من متابعة مراسم جنازته في 6 أفريل 2000 بالمنستير التي أغلقت يومها أمام الزوار أما التلفزة الوطنية فكانت تقدم برنامجا حول القردة في احدى البلدان الاستوائية بل بلغت درجة التغييب أن الإعلام العمومي انقطع عن تسمية شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة باسمه هذا وإنّما صار يذكره بصفة «الشارع الكبير» بالعاصمة.

بادرت ثلاثة شخصيات تونسية بتقديم طلب الى بن علي لرفع القيود الإدارية عن الرجل والسّماح له بزيارة قير امه المدفونة في الروضة التي بناها بورقيبة لنفسه قبل موته وهم الوزير ومدير الحزب الاشتراكي الدستوري محمد الصياح وطبيبه الخاص عمر الشّاذلي والمناضل جورج عدّة لقد قال المؤرخ عبد الجليل التميمي عن مدة حكم بن علي أنّها «فترة زمنية كان يصعب فيها ذكر اسم بورقيبة».

ولأن برامجنا الدراسية تميل مع رياح السياسة فقد راجعت وزارة التربية برامج التاريخ ولم يعد الصراع بين بورقيبة وصالح بن يوسف «فتنة يوسفية» بل صار الأمر خلافا بين زعيمين وطنيين في حركة التّحرّر الوطني واستقبل الرئيس بن علي أرملة صالح بن يوسف ورفعت القيود عن العائلة الحسينية وفي الأيام الأولى «للسابع من نوفمبر» كما هوجم منزل الحبيب بورقيبة الابن.

بعد الثورة على نظام بن علي يعود الحبيب بورقيبة للظهور في الفضاء العام.

عرفت هذه العودة مستويين ويتمثّل المستوى الأوّل في أنّ القيادة السياسية العليا في الدّولة كانت بيد أناس عملوا مع الحبيب بورقيبة ولم ينكروا ماضيهم معه واعتبروا حاضرهم امتدادا لذلك الماضي ويتمثّل المستوى الثاني في استثمار البعض اسم الحبيب بورقيبة ضد خصومهم السياسيين.

عودة الدستوريين القدامى بعد الثورة

يوم 14 جانفي 2011 فرّ الرئيس بن علي تاركا الدولة في وضع غير آمن فوقع الالتجاء أولا الى الفصل 56 من الدستور باعتبار غيابه يمثل تعذرا وقتيا عن القيام بمهامه.

غير انه وتحت ضغط الشارع وقع الالتجاء الى الفصل 57 فعاين المجلس الدستوري أن غياب الرئيس «بهذه الصورة يحول دون القيام بما تقتضيه موجبات مهامه وهو ما يمثل حالة عجز تام عن ممارسة وظائفه على معنى الفصل 57 من الدستور» ثمّ اعلن أوّلا الشغور النهائي في منصب رئيس الجمهورية وثانيا أنّ الشروط الدستورية توفرت لتولي رئيس مجلس النواب فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة الى حين إجراء الانتخابات.

هكذا صار فؤاد المبزّع بموجب الفصل 57 من دستور 1 جوان 1959 وبموجب قرار المجلس الدستوري رئيسا مؤقتا للجمهورية التونسية وهو سياسي عمل طويلا مع الحبيب بورقيبة فشغل منصب رئيس بلدية تونس وتداول على حقائب وزارية مثل «الشباب والرياضة» و «الصحة» وأيضا «الشؤون الثقافية» وانتخب عضوا في مجلس الأمة في عدّة دورات.

الوزير الأول الباجي قايد السبسي هو أيضا شخصية عملت مع الحبيب بورقيبة وشغل حقائب وزارية في الداخلية والخارجية والدفاع واعتزّ بعمله معه واعتبر حاضره امتداد لماضيه وكان انحاز الى الحبيب بورقيبة في خلافه مع صالح بن يوسف وبيّن في كتابه «الحبيب بورقيبة: المهمّ والأهمّ» أسباب اختياره شق الحبيب بورقيبة.

يتّضح من كل هذا أن الحبيب بورقيبة كان حاضرا عبر تلاميذه في تسيير الفترة الانتقالية للثورة التونسية لكن بفكر غير فكره وبأسلوب في تسيير دواليب الدولة يختلف كليا عن أسلوبه فقد تأقلم الرئيس المؤقت ورئيس الحكومة مع الوضع الجديد بقبول التعددية السياسية والانتخابات الحرة المستقلة غير معلومة النتائج مسبقا ويضاف لهما محمد الناصر الذي شغل منصب الرئيس المؤقت للجمهورية التونسية اثر وفاة الباجي قايد السبسي وهو كذلك من السياسيين الذين عملوا مع الحبيب بورقيبة وشغل خاصة وزارة الشؤون الاجتماعية.

ونظمت بتونس أول انتخابات حرّة ومستقلة لانتخاب أعضاء المجلس الوطني الدستوري أسفرت على حصول حزب حركة النهضة على اكبر عدد من المقاعد دون أن يدرك الأغلبية وقد حضر جلسته الأولى أعضاء في المجلس القومي التأسيسي ووزراء في حكومات الحبيب بورقيبة الذي رفع عنه الحجر.

روح بورقيبة في سجن التوظيف السياسي

من علامات رفع الحجر عن الحبيب بورقيبة عودة صورته للظهور وعودة اسمه أيضا للبروز لاسيما في البرامج الحوارية إذاعيا وتلفزيا وفي بلاغات الأحزاب وبياناتها لكن اللافت للنظر أن بروز اسمه لم يكن عموما في برامج حزبية تقدّم تصوّرا لبناء مجتمع أفضل وإنّما أداة لمقارعة خصم سياسي أو في ذهن البعض لمحاربة عدوّ وليس خصما.

هكذا نسب البعض الى بورقيبة كلما فعل وما لا يفعل مثل القول بأنّه فصل بين السياسة والدين أو بعبارة أخرى بين الدولة والدين وينقسم أصحاب هذا الادعاء الى صنفين متناقضين الصنف الأوّل خصم للحبيب بورقيبة يريد من هذا القول أن يشوّهه لدى الرأي العام زاعما انه مارق وخارج من الملة واتبع خط كمال أتاتورك واتبع الغرب الكافر مستعمر الشعوب بينما يقدّم الصنف الثاني الحبيب بورقيبة على أنّه حداثي بنى الدولة التونسية على أسس تقدّمية وعلمانية لكن الواقع هو أن الحبيب بورقيبة لم يفصل بين الدولة والدين وبالاطلاع على دستور جوان 1959 يتضّح بما لا يدع مجالا للشكّ أن الدين الإسلامي حاضر في أحكام هذا الدستور ونستعرض هنا بعضها:

1. البسملة هي في طالع التوطئة التي ختمت بعبارة «نحن ممثلي الشعب التونسي الحر صاحب السيادة نرسم على بركة الله هذا الدستور».

2. نصّ على أن تونس دولة دينها الإسلام وعلى أنّ رئيس الجمهورية دينه الإسلام وعلى أن الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية يسجّل بدفتر لدى لجنة تتركّب من أربعة أعضاء من بينهم مفتي الديار التونسية وطيلة مدة حكم الحبيب بورقيبة ظل المفتي عضوا في اللجنة التي تنظر في مطالب الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية ولم يعد عضوا فيها عندما أحيل النظر في مطالب التّرشّح الى المجلس الدستوري. وفي التنقيح الدستوري لسنة 1976 أضاف الفصل 40 شرطا جديدا للترشح لمنصب رئاسة الجمهورية وهو أن يكون المترشح مسلما.

3. لقد احدث الحبيب بورقيبة بالأمر عدد 663 لسنة 1987 المؤرّخ في 22 أفريل 1987 المجلس الإسلامي الأعلى وهو هيئة استشارية تكلّف بالنظر في كل المسائل التي تعرضها عليه الحكومة وخاصة تلك «المتعلّقة بتطبيق الفصل الأوّل من الدستور من أنّ الإسلام دين الدّولة» وينظر في المسائل «المتعلقة بالنواحي الفقهية والأخلاقية والاجتماعية وفي هذا الصدد يقترح كلّ ما من شأنه أن يحصّن الأمّة في دينها» من التفسّخ والانغلاق ومن كلّ ما يؤثّر سلبيا في مقوّمات أصالتها» وينظر أيضا «في تنظيم التعليم الديني ومناهجه ولهذا الغرض يقدّم المقترحات والتوصيات التي يرى أنها تحقق النجاعة والأغراض النبيلة التي يهدف إليها التعليم في تكوين المواطن التونسي المسلم.

يكفي هذا الأمر وحده لدحض كل من ادعى أن الحبيب بورقيبة فصل بين الدين والدولة بل أي خذاب يزعم أن كلمة الإسلام في الفصل الأوّل لا تعود على الدولة وإنما تعود على تونس.

الاستلاء عل ميراث بورقيبة

تدعي عبير موسي أنها تملك وحدها الإرث البورقيبي فأسست بعد الثورة حزبا اطلقت عليه اسما فيه نقل شبه حرفي لاسم الحزب الحر الدستوري الجديد الذي أسسه الحبيب بورقيبة عندما انشق عن الحزب الحر الدستوري التونسي ومؤسسه الشيخ عبدالعزيز الثعالبي.

من العلم أن رئيسة هذا الحزب كانت تشغل مناصب عليا في التجمع الدستوري الديمقراطي أي في زمن كان يغيّب فيه الحبيب بورقيبة تغييبا تاما ويصعب فيه ذكر اسمه في الإعلام العمومي الذي يقتصر في نشراته وتعاليقه على إبراز إنجازات السابع من نوفمبر لا اكثر.

السلطان يموت وحيدا

هكذا عاش بورقيبة عيشة السلاطين أبهة أرادها أن تكون مدى الحياة فلم تكن ومات موتة الغرباء، وحيدا يشتهي زيارة قبر امه على بعد امتار من مقر معتقله بالمنستير فلا يراه ثم تسلخ صورته ميتا من قبل كل الذين تنكروا له حين كان مهانا في مدينته التي كانت تتزين له كل سنة لمدة أيام وشهور.

ولكن من نلوم اليوم على إهانة بورقيبة في آخر سنوات حياته من قبل ذلك الذي اختاره هو نفسه وزيرا أولا في دولته فصار وبالا على تونس حتى خلعته في ثورة مشهودة ؟ وهل نلوم من استولى على صورته بعد موته في حين انه تنكر له حيا ميتا في معقله الأخير.

هل دفع بورقيبة في عهد بن علي خاصة ثمن سياسته هو نفسه..؟ فالمجاهد الأكبر صار هو الأكبر تألها على الأرض لا احد سواه.. الغى تاريخا وشخصيات وحقبا حتى صارت تونس ملكا له، هو من صنعها فسيفاء جعل منها بلدا، شعبا ودولة. محا كل شيء عدا تاريخه الخاص ليمهد بذلك لسياسة طمس الذكرة وإلغاء التاريخ.

عجبا للزمن حين يدور دورته اللئيمة!!! : تهين التاريخ.. فيهينك التاريخ بلا رحمة.

فهل من معتبر ؟

رحم الله بورقيبة لقد كانت حياته أعظم بكثير من موته.

Exit mobile version