نور الدين الغيلوفي
1. الأدبُ الخيالُ، والخيال طائر يحلّق بعيدا، يخرج من حدود جاذبيّة الواقع إلى مدارات تحرّر الممكن. ليس مستحيلا أن يتكلّم قِطٌّ إلى قِطٍّ، فطرائق التواصل بين الحيوانات مع بنات نوعها ممكنة، ومنها تنشأ التحالفات وتكون التناقضات.. وتلك أممٌ أمثالكم. المستحيل أن يكلّم قِطٌّ إنسانا. فإذا حمل خيالٌ ما قطّا على أن يكلّم إنسانا احتاج إلى أن يجريَ تحويلا على جهاز الاستقبال في الإنسان يسمح له بأن يفهم منطق القطط. التحويل يكون، مثلا، بتدخّل طبيعيّ مثل صاعقة تصيب الدماغ بعطب ما يتحوّل إلى طاقة فوق بشريّة، وقد يحصل التحويل بفعل إشعاع من تلك الصنائع التي يخلقها الإنسان للسلم أو للحرب.
- حياة بعض الذين من حولنا خزائن ملأى بالقصص. قصصهم وقائع مرّوا بها. السِّيرُ ليست حكرا على المحظوظين بمعنى للحظّ أو بآخر. أناس كان يمكن لو أنّ الدولة الوطنيّة لم تطلب قداستَها بالدوس عليهم لكان لهم، بين الناس، شأن لا يطمع ببلوغه كثير من الناس.. غير أنّ أنساقا ظالمة تركتهم في العتمة.. ومن عتمتهم التي أُجبروا عليها تأتي حكاياتهم. هؤلاء يصلحون أبطالا لأعمال سرديّة ودراميّة ولملاحم شعريّة كما لم تكن خرافات.
من كان يظنّ أن الشابّ الموريطاني محمدو ولد صلاحي الذي خطفته المخابرات الأمريكيّة من قريته بين أهله وعلى مرأى من والدته لتشحنه إلى سجن غوانتانامو، من كان يظنّ أن يتحوّل بعد سنوات سجنه الطويلة إلى قبلة لبعض مخرجي هوليود ليعدّوا فيه فيلما عظيما عنوانه الموريطاني؟ أكاد أقول إنّ لنا في كلّ قرية من قرانا من محمدو ولد صلاحي أعدادا كثيرة، ولكنّنا مخنوقون بين خوفين: خوفٍ من البوح وخوفٍ من تقييده.. أخاديد في الأرواح يجاهد أصحابها للَأْمها فيكسرون أقلامًا تكشطها.
تجد بيننا خزائن معبَّأة بالسرد ولكنّ أبوابها بين داخل يجذبها مخافة الانكشاف وخارج يدفعها خشية الاشتهار.
- السرد ليس كتابة للتاريخ، ولكن يمكن له أن يعبر جدول التاريخ فيأخذ منه ما يحكيه الممكن في أفق ما يبقى ولا يزول بزوال سياقه الذي وقع فيه. تجارب الناس قصص لا تصلح للنسيان. ولأيّ شيء جُعلت الأقلام؟ أليس للمقهورين فيها حقّ ومنها نصيب؟
– ياه،
قلناها معا حين التقينا، لم يكن لقاؤنا مرتَّبا.. كان صدفةً، وغمرني حضنُه مثل حصن قديم لا يزال حصينا.. كأمس التقينا. ابتعدنا قليلا لترى العيون ما أخفاه الحَضنُ، كأنّنا نعيد ترتيب أوضاع الأيدي، وعدنا إلى حضنينا. من قال إنّ الحضن لا يحكيه غير أهل العشق في الغزل؟
آخر ما أذكره عنه في كلية الآداب بمنّوبة قبل أكثر من ستّة وثلاثين عاما ممازحة نسيت تفاصيلها، لم يبق منها غير ابتسامة استولت على وجهه ورمشت لها إحدى عينيه مثل أداة توكيد لا تنسى عملَها.. وجدتها كما تركتها قبل كلّ هذا الزمان الطويل.
رأيتُني في مرآة وجهه، فعدّلت على مرآهُ مجلسي كأنّني أنكر وطأة السنين.. والسنين وحدها تأتيك بالسرد الدسم.
جلس قبالتي في المقهى وهو ينادي النادل يمازحه ويستفسر عن طلبي. أمسك يديّ بيديه كأنّه يستحلفني بقاءً يخشى ذهابَه، لم يستطع إخفاء ارتباكه.. فهرع يستعين على حالته بعلبة سجائر اشتراها من دكّان قريب وعاد مسرعا.. أضرم السيجارة الأولى، خزن منها نفسا عميقا وسألني عن أحوالي وما فعلت فيّ السنين.
قلت له ممازحا:
– السنين تركتني، مرّت بجنبي لم تصبني بأذاها وانشغلت برأسك تزرع صحراءها فيه، هات حدّثني بصحراء السنين.. وما فعلت بك الحرائق.. يا عتيق. للأصدقاء، إذا لقيتهم، بعد طويل غياب، مثلُ فعل الخمرة بالرأس وأضعافها في الحشا، كلّما كانت أكثر عتقا كانت للنشوة أغذى.. ووُجد الخدر في دبيب.
لمعةٌ ما بدت لي في عينه، أكانت دمعة؟ لست أدري. رآني أسعل من دخان سيجارته فألقى بها تحت نعله ودهسها كأنّه يعاقبها، وأرخيتُ العنان لحديثه… أنا المجاعة وعيناي الملاعق. وليسقيم له الحديث أشعل أخرى، وأضرم في الحشا عود ثقاب.. وكان المجلس يشبهه الحريقُ.
- أهربت من السجن؟
ضحك، ومن علاماته أنّه إذا ضحك أغمض عينيه، كأنّه حين يغمضهما يرى من داخل ذاكرته، يسلك طريقا لا تراها، يجلب منها ما يشاء ولا يدعك تدخل إلى خزانة عمر مكتوب على غضون وجهه، يأخذه العمر إليه فينتفض بكل شيء فيه عنادا كأبطال الملاحم لا يرضون بأن تمرّ بجنبهم المآسي.
– ليلة خروجي من سجن9 أفريل بعد سنة ونصف من الاعتقال…
– حكموا عليك بها كلّها؟
– الحكم القضائيّ كان بستة أشهر فقط، أمّا باقي المدّة فكان إيقافا بلا رصيد.
لمّا لاحظ استعصاء فهمي أخذ في البيان:
– حين يعتقلك أمن الدولة لا يكتفون بأخذك إلى مكان لا يعلمه غيرهم ليفعلوا بك ما يحلو لهم، وكم كنّا نسمع منهم قولهم:
– الليلة سنسهر على فلان، فكانوا على صراخ أحدنا يسهرون.. لنسمع ضحكاتهم ويمضغنا القهرُ، وليس أشدّ قهرا عليك من أن ترى أمانيك تُقتل فيك. حين تكون وجبةً للتعذيب من أشباه بشر يستمتعون بصراخ الموجوعين يهون عليك موتُك أمام ما ترى من أمنياتك تُقتل أمامك، كأنّهم تعلّموا، وهم يعذّبونك، أن يستلّوا منك أمانيَك ليدوسوا عليها أمامك. لا يقتلون فيك جسدك الفاني، بل يعتقلون بحقدهم معلَّقات الآمال. يتسلّلون إلى مهدها فيئدونها.
المدّة التي تكون فيها بين أيديهم في مكان لا يعلمه أحد هي مدّة خارج الزمان ولا تدخل في حساب المدّة التي حكم بها القضاء. لذلك قضيت سنة ونصفا حكم عليّ منها بستة أشهر فقط.
– والتهمة؟
– صورة.
– ؟
– حين أنزلوني من المِصلاة، وهي هيأة يكون عليها المعتقل، مثل دجاجة تدور على النار لتُصلى، حين أنزلوني كنت بين غياب وحضور، تكثّفت الآلام فيّ من شدّة الضرب حتّى رأيت كأنّ أوردتي تتخاصم فرارها منّي.. تنغمس شعرات صدري وفخذيّ في الدماء.. يحتدّ الألم ويشتدّ بي فلا أرى غير صورة لأحد الشهداء يبتسم لي ويبكي، وسرعان ما تتلاشى الصورة لأسمع لغط الجلّادين يتسلّل إلى أمعائي فيعقدها بحبل من نار. كانوا إذا أطلتُ غيابي ينادون طبيبا من غرفة مجاورة، مهمّته أن يطلق أيديَهم بالتعذيب حتى إذا بلغوا منه مدى بعيدا وأشرف المعتقل فيه على الموت كفّ أيديَهم عنه حماية لهم لا دفاعا عنه. ركبتُ رأسي ولم أعترف لهم بشيء، بعد أن فهمت أنّ الجريدة التي لجأتُ إليها لتنشر صورة الشهداء باعتني.. لم أذكر لهم من أنا، ولكنّ البيع تمّ.
كلّ الذي فعلته أنّني جمعت ملفًّا من صور الشهداء وأخذتها إلى جريدة المستقبل في اللحظة التي انقلب فيها النظام على قيادات الحزب الذي يصدرها آنذاك، سنة1991، خلع النظام قيادة الحزب الشرعيّة واختار قيادة أخرى أوقفها على باب معارضته لتشيَ بالمعارضين.. وكذلك فعل باتحاد الشغل. أحذت ملفّا بصور الشهداء ودفعت به إلى مقرّ الجريدة طمعا في أن ينشروها كما كانت تفعل جريدة الرأي من قبل. لم أعلمهم من أنا.. ولكنّهم باعوني.. ولا أدري الثمن.
في الليل كنت في منطقة جبل الجلود بين أهلي، زوجتي ولا تزال عروسا، وأختي، وأخي جاء يومها من قريتنا في زيارتنا. اقتحموا البيت علينا على الساعة الثانية فجرا، فأخذوني وأخي.. ثمّ سرّحوه واعتقلوني عندهم.
كان يقبل على الحديث وكلّ وجهه ويديه، وكانت عيناي مثبتتين في ملامحه أرصد كل انفعال بها وأتتبّع نبرة صوته كأنني أحقن بها ذاكرتي لتستردّ ثروة لسان لا أريد للنسيان أن يدخل إليها.
- صورة واحدة من الملفّ كانت تعنيهم.. صورة لشهيد التُقطت له من داخل مسلخ التعذيب حيث قُتل.. كان السؤال:
- كيف وصلتك الصورة؟ أجب عن سؤالنا ونطلق سراحك على الفور. ولكنّني لم أقل شيئا فأشرفت بعنادي على الموت أكثر من مرّة. كان لا بدّ لي أن أبقى حيّا لأحكيَ حكايتي بعد كلّ هذا الزمان.
ليلة خروجي من سجن 9 أفريل همس لي بعضهم بأنّ حكما بعشر سنوات ينتظرني.. معنى ذلك أنّ المدّة التي قضيتها لم تكن أكثر من مقدّمة لأستقبل الوجبة المثقلة.
بتّ ليلتي لم أنم. خشيت عليّ ولكنني خشيت على نجلاء زوجتي أكثر. أعرف وقع المرارة عليها إن علمت بأنّها لن تظفر بي إلا كهلا إن بقيتُ حيا أو بقيتْ. لم أرتبّ شيئا ولكنّ أمرا ما سكنني كنت معه على استعداد لفعل أيّ شيء…
(يتبع)