اليمين الفرنسي المتطرف و”حق الأرض” “Droit du sol” الوجه الآخر لفرنسا الاستعمارية

عبد السلام الككلي وعلي الجوابي

أعلن رئيس حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف وريث حزب «الجبهة الوطنية» جوردان بارديلا عن رغبته في إلغاء «حق الأرض» في حال الفوز في الانتخابات التشريعية المبكرة في فرنسا ولكنه لم يحصل إلا على المرتبة الثالثة، وما لبث الحزب أن تراجع عن «الإلغاء» معلنا تفاصيل أخرى تفيد بـ «تقييد» الحصول على الجنسية الفرنسية.

ولكن ما هو قانون «حق الأرض»؟ وهل هو معمول به حقا في فرنسا وقد اصبح موضوعا ساخنا منذ بداية العام الجاري وازداد حدّة في الحملة الانتخابية بين الخصوم السياسيين؟ [1]

حق الأرض Droit du sol

حق الأرض » هو حق الحصول على جنسية بلد ما بمجرد الولادة فيه.

غير أن هذا الحق بهذه الصيغة غير موجود في فرنسا، حيث إن فرنسا «لا تطبق حق الأرض بشكل آلي، ولا يكفي أن تكون مولودا في فرنسا حتى تحصل على الجنسية الفرنسية» كما هو الحال في بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة، فاذا ولدت في هذا البلد تحصل على الجنسية الأمريكية تلقائيا.

«ويستغل بارديلا، باستخدامه مصطلح «حق الأرض» في تبرير نظريته حول الاستبدال العظيم وخطر وفود المهاجرين [2]، الجهل القانوني للناس من خلال تبني فكرة أن أي طفل أجنبي يولد في فرنسا هو تلقائيا فرنسي، وهو أمر خاطئ من الناحية القانونية.

ففي فرنسا، لا يُطبق «حق الأرض» تلقائيا بل يطبق ما يسمى بـ «حق الأرض المزدوج» Double droit du sol

أي أن الجنسية الفرنسية تُمنح بشكل تلقائي لطفل ولد في فرنسا شريطة أن يكون أحد أبويه، وهو أجنبي، ولد في فرنسا أيضا هذه الحالة بالإضافة إلى حالة الخاضعين إلى «حق الدم» أي الولادة لأب أو أم فرنسيين في فرنسا أو في الخارج هما الحالتان الوحيدتان اللتان تمكنان من الحصول على الجنسية تلقائيا عند الولادة.

أما بالنسبة للأطفال المولودين في فرنسا لأبوين أجنبيين وُلدا في بلد آخر، فإن القاعدة تختلف إذ يمكنهم الحصول على الجنسية الفرنسية عند بلوغهم سن الرشد، ولكن بشرط الإقامة في فرنسا لمدة خمس سنوات على الأقل –بشكل مستمر أو متقطع– منذ سن 11 عاما.

وهو ما يعني أنّ الولادة بالتراب الفرنسي من أبوين أجنبيين غير كافية لاكتساب الجنسية الفرنسية كما يروج لذلك اليمين المتطرف.

غير أن استغلال قضية «حق الأرض» واستخدامها في الحملات الانتخابية وحتى خارجها ليس حكرا على حزب «التجمع الوطني» المتطرف ففي فيفري من العام الجاري زار وزير الداخلية الفرنسي «جرار دارمنان» جزيرة «مايوت» الفرنسية واعلن عن عزم الحكومة إلغاء «حقّ الأرض» في هذه الجزيرة بحجّة تعاظم الهجرة «غير النظامية» إليها من الجزر غير الفرنسية القريبة منها والمكوّنة لأرخبيل جزر القمور وبحجّة أنّ «حقّ الأرض» يكسب الجنسية الفرنسية لأبناء المهاجرين غير النظاميين وأشار الى أنّ الإلغاء سيتمّ بتعديل للدستور يقرّره رئيس الجمهورية.

انتهزت أحزاب اليمين الفرنسية بمختلف أجنحتها هذا الإعلان وطالبت الحكومة بتعميم إلغاء «حق الأرض» على كامل التراب الفرنسي بحجّة أن الجنسية الفرنسية يورّثها الآباء الى أبنائهم واعترضت أحزاب اليسار على إلغائه معتبرة إيّاه من أركان الجمهورية والدّيمقراطية واعتبرت التعديل المزمع القيام به يؤدّي الى عدم المساواة بين المواطنين الفرنسيين.

«حق الأرض» في التاريخ الاستعماري

تاريخيا كان اليمين الفرنسي بمختلف أجنحته يدعو الى تطبيق «حق الأرض» في المستعمرات الفرنسية التّي من بينها تونس والجزائر والمغرب وقد بادرت الدولة الفرنسية بتطبيقه منذ السّنوات الأولى لاحتلالها الجزائر فهجّرت الجزائريين من قراهم ومدنهم واستولت على أراضي الوقف الإسلامي وعلى أراضي القبائل وبنت بها مدنا وقرى وملّكتها الى أوروبيين استقدمتهم من مختلف الدّول الأوروبية وشجّعتهم على الاستيطان بالجزائر ومنحتهم الجنسية الفرنسية كما منحتها للأوروبيين الذين كانوا مقيمين بالجزائر قبل احتلالها.

وسنّت الدولة الفرنسية قانونا يمنح الجنسية الفرنسية لكل مولود بالأرض الجزائرية لأبوين غير فرنسيين وبعد الجزائر احتلت تونس والمغرب وسنّت بهما قوانين تكسب الجنسية الفرنسية لكل الأوروبيين المقيمين بهذه البلدان ولأبنائهم المولدين بها وكانت غايتها أوّلا إكثار العنصر الفرنسي بهذه البلدان فقد كان الأقلّ عددا من غيره وثانيا لوضع حد لتدخّل أنكلترا وإيطاليا وإسبانيا في الشؤون التونسية والجزائرية والمغربية بحجّة حماية مواطنيها في هذه البلدان.

ففي تونس كان عدد الإيطاليين يفوق بكثير عدد الفرنسيين ولم تخف إيطاليا نواياها في الاستيلاء على تونس وكانت توجد بشمال إفريقيا جالية مالطية كبيرة العدد من رعايا التاج البريطاني وكان يوجد بالجزائر عدد ضخم من الإسبان يفوق بكثير عدد الفرنسيين لاسيّما في مدينة وهران التّي كانت مستعمرة إسبانية لمدّة تفوق القرنين ثم استردّها العثمانيون الى حين احتلال فرنسا للجزائر[3] ومنحت الجنسية الفرنسية ليهود الجزائر[4] ولم تمنحها للجزائريين المسلمين وسنت لهم قانونا جائرا وهو قانون «الأنديجان» Indigène الذي يعتبرهم غرباء في بلادهم ويحرمهم من مفهوم المواطنة ويسخّرهم للأعمال الشّاقة.

اثر نهاية الحرب العالمية الثّانية انطلقت حركات التّحرّر في المستعمرات الفرنسية والإنكليزية واحرز أكثرها على الاستقلال السياسي خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومن بينها بلدان المغرب العربي وهي ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وقد استعملت فرنسا المستوطنين الأوروبيين ورقة ضغط في مفاوضات الاستقلال.

ففي خطابه أمام الباي محمد الأمين أخر بايات تونس عرض بيار منداس فرانس في جويلية 1954 على العاهل الحسيني التفاوض على استقلال تونس الداخلي وألحّ على الحقوق السّياسية للفرنسيين المقيمين بتونس من خلال مجالس نيابية خاص بهم بينما هم ليسوا في الواقع سوى المستوطنين الأوروبيين الذّي استقرّوا في تونس بفعل الاحتلال العسكري كما اعتبر هؤلاء المستوطنون أنفسهم «فرنسيو تونس» وطالبوا بتمثيلهم بوفد في مفاوضات الاستقلال الداخلي وهو نفس ما طالب به قسم من المستوطنين الأوروبيين في الجزائر باعتبارها وطنا لهم يمارسون فيه جميع الحقوق بما فيها السّياسية بينما اعترض أكثرهم على استقلال الجزائر.

بعد استقلال تونس والجزائر والمغرب ونظرا لاقتصادها الضعيف وهي الخارجة توا من بؤس الفترة الاستعمارية هاجر كثير من التونسيين والجزائريين والمغاربة الى فرنسا التي كان اقتصادها في حاجة أكيدة وملحّة الى اليد العاملة غير المختصّة التي قدمت إليها من دول شمال إفريقيا ومن غيرها من الدول الإفريقية التي كانت مستعمرات فرنسية.

لقد سمحت الدولة الفرنسية لتلك اليد العاملة بعبور المتوسّط في رحلات نظامية وبدخولها التّراب الفرنسي بصفة قانونية وبالعمل في المؤسسات الفرنسية الكبرى والمتوسطة والصغرى ولاسيما في ميدان البناء وفي معامل السيارات ثمّ سمحت الدولة الفرنسية للمهاجرين باستقدام زوجاتهم وهناك ولد لهم أبناء نشؤوا في فرنسا في بيئة تختلف تماما عن بيئة آبائهم من حيث لغة التخاطب في الشّارع وفي الإدارة العمومية وفي مقرّات العمل وفي الدراسة وتختلف من حيث العادات ومن حيث العطل الرسمية وعملا بـ «حقّ الأرض» بالصيغة التي شرحناها اكتسب أبناء المهاجرين الجنسية الفرنسية.

لقد كانت الهجرة الى فرنسا طلبا للرزق وقبلت بها فرنسا لسد حاجة اقتصادها لليد العاملة ولم تكن تلك الهجرة بفعل عمل حربي استعماري استيطاني.

هكذا انقلب خطّ الهجرة فقد كان في الفترة الاستعمارية من أوروبا في اتجاه المستعمرات في إفريقيا حيث اغتصبت الأراضي وافتكت من أصحابها في الشعوب الرازحة تحت الاحتلال أما بعد الاستقلال فقد صار خطّ الهجرة من الجنوب في اتجاه الشّمال ومن إفريقيا الحائزة توا على الاستقلال السياسي الى دول أوروبا مثل فرنسا وبلجيكا وألمانيا.

في المحصلة استعملت فرنسا «حق الأرض» في الفترة الاستعارية لتسهيل عيش الأوروبيين في مستعمراتها وكان ذلك أيضا أحد مظاهر صراعها مع الدول الأوروبية التي لها جاليات هامة بشمال إفريقيا وقد طبّقت فرنسا هذا الحق في بلدان ليست تابعة لها في نظر القانون الدولي. فقد طبّقته في تونس وفي المغرب وهما دولتان ترتبطان مع فرنسا باتفاقيات «حماية» من الناحية القانونية البحتة (ليس في وارد هذا المقال الفصل في قضية هل أن وجود فرنسا في تونس كان حماية أم استعمارا ؟) وحافظت كل واحدة منها على كيانها الخاص بها وعلى تشريعها وعلى محاكمها وعلى علمها وعلى «سيادتها الداخلية» ما يجعل تطبيق قانون الأرض بتونس والمغرب مخالفا للاتفاقيات «الحماية المبرمة» معهما.

بعد استقلال المستعمرات فقد حق الأرض وظيفته الاستعمارية لذا فان اليمين الفرنسي بجميع أجنحته تقريبا أي ليس اليمين المتطرف فحسب بل حتى اليمين «الجمهوري» يسعى اليوم في ظل الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها فرنسا الى الالتفاف عليه من خلال مغالطة الرأي العام الفرنسي ويستغلّ عدم إلمام كثير من الفرنسيين بالمعني القانوني لحّق الأرض في التّشريع الفرنسي وبعدم إلمامهم بكيفية تطبيق الإدارة الفرنسية له على الأراضي الفرنسية.

•••

[1] خصّصت جريدة «لومانيتي» التابعة للحزب الشّيوعي الفرنسي ملفا في جزئين حول حق الأرض يومي 26 و 28 فيفري 2024 بعنوان هل يمكن أن نكون جمهوريين وضدّ «حقّ الأرض».

[2] الاستبدال العظيم Le grand replacement ‏ هي نظرية مؤامرة يمينية، وتنص على أن السكان الفرنسيين الكاثوليك البيض، والسكان الأوروبيين المسيحيين البيض عمومًا، يجري استبدالهم بشكل منتظم بغير الأوروبيين خاصة السكان العرب وقد وجد في تونس في الفترة الأخيرة حزب يروج لهذه النظرية العنصرية من خلال وجود الأفارقة القادمين الى تونس من جنوب الصحراء (الحزب القومي التونسي)

[3] اعترضت تلك الدول على فرنسة مواطنيها المقيمين بشمال إفريقيا كما احتفظ بعض الأوروبيين بجنسيتهم الأصلية فيما اعترض آخرون على تجنيسهم مثل قسم كبير من المالطيين.

[4] Le décret Crémieux du 24 octobre1870 attribue d’office en 1870 la citoyenneté française aux « Israélites indigènes » d’Algérie, en l’occurrence à 35 000 juifs

Exit mobile version