حول راشد الغنوشي…

عبد الرزاق الحاج مسعود

لا توجد اليوم شخصية عامة وسياسية تونسية مثيرة للانقسام الحاد حولها والجدل والخصومة العنيفة مثل شخص راشد الغنوشي (شخصية قيس سعيّد نوع آخر). شخصية تجد من يحبّها ويرفعها إلى مرتبة القداسة، وتجد من يكرهها إلى حد الشيطنة. له أنصار يصنّفونه ضمن سلسلة عظماء التاريخ التونسي والعربي وحتى العالمي، وله خصوم يحمّلونه مسؤولية مباشرة عن كل الكوارث التي تتخبّط فيها تونس منذ ظهوره على ساحة السياسة أواخر السبعينات إلى اليوم.

راشد الغنوشي

بين هذين القطبين المتطرفيْن اللاعقلانيّيْن في تقييم شخصية الغنوشي، ولأن ما نعيشه الآن جميعا لعب فيه الغنوشي كشخص دورا رئيسيا، ولأن مستقبل العملية السياسية أي مستقبلنا جميعا مرتبط بشخص الغنوشي مباشرة (هل سيذهب الانقلاب إلى إغلاق صفحة الغنوشي نهائيا، أم أنه سيعقد معه صفقة ما…)، يصبح من قبيل الحق والواجب معا أن نقدم رأيا في الغنوشي.. للتاريخ.

هناك شخصيات عامة كثيرة في تاريخ تونس المعاصر ينقسم حولها التونسيون، أمثال بورقيبة والطاهر الحداد وبن يوسف وبن صالح وبن علي والباجي.. لكن الانقسام حول الغنوشي لا مثيل له. بما يعني أن هناك فعلا مشكلة يجب تفكيكها.

• الغنوشي شابّا.. كانت له مؤهلات فكرية وخطابية في مجال محدد وهو الفكر السياسي الإسلامي الحركي (ليست مؤهلات معرفية أو فلسفية)، أهلته ليكون زعيما وسط تياره الخاص.

• السرية خلال السبعينات والثمانينات والنشاط تحت تهديد الملاحقات الأمنية اليومية جعلت منه ومن رفاقه الأوائل من مؤسسي المعارضة الإسلامية أبطالا كبارا وأحيانا خرافيين في أذهان مناصريه الذين يتناقلون أخباره مشافهة أو في مناشير تؤدي إلى السجن.

• المحاكمات السياسية المتكررة بداية من 1981 والأحكام بالسجن المؤبد، انتهت إلى رسم صورة الغنوشي “الزعيم النقيض” لبورقيبة. ولأن المخيال السياسي الجماعي التونسي كان يماهي بين الدولة وشخص بورقيبة، فقد انزلق مخيال المعارضات إلى مماهاة رموزها مع صورة “الزعيم البديل لبورقيبة”.

•دكتاتورية بن علي أسسها على شرعية وحيدة هي الحملة الوحشية على حركة النهضة بسجن الآلاف من أنصارها وتعذيبهم.. و”طرد” الغنوشي من المشهد. والمنفى يضاعف الزعامة.

• ما حصل بعد الثورة منذ نزوله من سلم طائرة العودة.. حتى الآن، هو استثمار مكثّف، شخصي وحزبي، في “زعامة” الغنوشي التي راكمها خلال المراحل التي ذكرناها.

• هنا يمكن الحديث عن تحول الزعامة إلى مرض وانحراف ولعنة. إدارة الغنوشي للشأن الداخلي للنهضة التي يعرفها من واكب المؤتمر العاشر للنهضة وكما تحدثت عنها رسالة المائة قيادي الشهيرة والقيادات التاريخية المستقيلة يدرك أن الزعامة تحولت عند الغنوشي إلى مرض.

• هذه الزعاماتية المكثفة مكّنت خصوم النهضة وأعداء الانتقال الديمقراطي من اختزال برنامجها السياسي في استهداف شخص الغنوشي وشيطنته بكل الطرق، عن حق وعن باطل، إلى حد أن أصبح شخصية منفّرة فعلا عند أجزاء واسعة من الناس. بل أنني أجزم أن حالة الرضا العام التي استقبل بها الناس الانقلاب، وفي الحد الأدنى اللامبالاة (فما بالك بالاحتجاج والرفض) كانت بسبب وجود شخص الغنوشي على رأس البرلمان. (الاعتراض المعروف بأن هذا انطباع شخصي لا دليل عليه هو من قبيل المعاندة والجدل).

• سلوك الانقلاب مع الغنوشي شعبوية “محسوبة”. فقد أجّل اعتقاله سنتين كاملتين إلى حد أن جعل إيقافه مطلبا شعبويا وخبرا ينتظره أنصار الانقلاب يوميا. وموجة الشماتة الشعبوية المريضة التي صاحبت اعتقاله وتتجدد مع كل جلسة من جلسات محاكمته مؤشر يراه الجميع.

وعلى أبواب انتخابات محتملة يريدها الانقلاب ترسيخا لما قطعه من مراحل التجريف السياسي وتجديدا شكليا لشرعيته، لا يمثل استمرار اعتقال الغنوشي مصدر قلق للانقلاب، بل لعله مصدر شرعية متجددة.

• أخيرا، وبعيدا عن التعاطف الوجداني مع الغنوشي بسبب عمره أو التعاطف السياسي معه باعتبار سجنه ظلما مسلطا على شخصه من دون وجه حق، فإن استمرار سجنه يمثل عقدة من عقد السياسة في تونس. عقدة تمنع استئناف السياسة على أسس عقلانية.. بعيدا عن الاستثمار السخيف في شخصه بمدائح بائسة من نوع “لله درّك راشد” و”لست وحدك”.. وبعيدا عن الاستثمار المقابل الذي يمارسه الانقلاب برهن العملية السياسية برمتها في محاكمات صورية لرموز المرحلة الانتقالية وعلى رأسها الغنوشي.

للأسف.. تبا.

Exit mobile version