عبد اللطيف علوي
مازال كمال الشارني يصر على أن يلقي في كل مرة حصاة أخرى في الروح، بارع هو وعديم الرحمة، حين يشرع في سكب الماضي على جراحنا كالزيت المغلى.
أنا وكمال الشارني التقينا في شهر ماي على ما أذكر من سنة سبع وثمانين، في سجن الكاف، الشّمبري عدد7 أو 8 إذا لم تخنّي الذّاكرة! لا أعرف، هو يحفظ هذه الأشياء بوضوح عجيب، ولست أدري أأحسده على ذاكرته المشتعلة الّتي مازالت تحتفظ بتفاصيل التّفاصيل، أم أشفق عليه!
كان قد سبقنا إلى هناك ببضعة أشهر، أتذكّر ذلك الشّابّ النّحيل، بلباس “الدّنڨري” وهو يعترضنا عند البوّابة حافيا، وما أكثر ما كنت أراه حافيا، ثمّ يدرّبنا يوما بعد يوم على كيفيّة التّعامل مع باقي مرابيط الحقّ العامّ، وحرّاس السّجن، وكيفيّة إخفاء التفاصيل الصّغيرة عند حملات التّفتيش والمداهمات اللّيليّة.
قبلها بأسابيع قليلة كنت قد جاوزت الثّامنة عشر بقليل، تلميذا بالمعهد الثّانوي ببوسالم، عاقّا لأبوّة المجاهد الأكبر. أذكر أنّه الرّبيع، ربيع الحرّيّة والبلد يتهيّأ ليسقط الفرعون العجوز عن كتفيه، الفرعون الّذي شاخ ونخر السّوس عكّازه وأبى أن يسقط قبل أن يدحرج تحت قدميه ثلاثين رأسا من قيادات الاتّجاه الإسلاميّ. المظاهرات تعمّ البلاد والتّلاميذ والطّلبة كانوا يتقدّمون الصّفوف، في زمن كان تلاميذ المعاهد الثّانويّة أكثر وعيا ونضجا وتسيّسا من أساتذة الجامعات في أيّامنا الرّديئة هذه…
كنت عاشقا أيضا، وكيف للشّاعر أن لا يكون عاشقا! واعدت حبيبتي في إحدى القاعات لأصالحها ولأودّعها في نفس الوقت، بعد خصام وجفاء دام أشهرا، وقلت لها: ” غدا سيكون تحرّكنا! ومن المرجّح جدّا أن يقع اعتقالي بعد ذلك! هل ستنتظرينني؟!”
أومأت برأسها وهي مطرقة، وخيّمت غلالة من الخوف ورائحة الوداع على ما تبقّى من اللّقاء، لم يطل أكثر من دقائق، لتقف في اليوم الموالي تشاهدني وأنا أُحشَرُ داخل الباڨه مع عدد من التّلاميذ الّذين قادوا التّحرّكات وصار لا بدّ من تأديبهم!
كانت حفلات التّعذيب تتمّ ليلا، حين يهدأ كلّ شيء، يتعالى صراخنا وأرجلنا الغضّة تتفلّق تحت “الفلقة”، في النّهار يحرموننا من النّوم، ونظلّ جالسين على المقاعد الخشبيّة حتّى تتقوّس ظهورنا، وفي اللّيل يتفرّغ الأعوان لتعليقنا والضّرب حتّى الصّباح، بلا أسئلة، وبلا تهم! كان التّعذيب غاية في حدّ ذاته وليس مجرّد وسيلة، وكنت أستحضر في كلّ لحظة كلام “رجب” من شرق المتوسّط: “إيّاك أن تنطق الكلمة الأولى! إذا نطقتها فسيسحبونك من لسانك كالحمار حتّى تقول كلّ شيء!، قاوم إذا أردت أن تظلّ رجلا!” وقاومت وقاومت، حتّى اللّيلة الأخيرة، ناداني رئيس المركز ليقرأ عليّ المحضر، قال لي: “طبعا أنت تعرف ماذا قلت؟” أجبته: “طبعا أذكر، أنا لم أقل شيئا!” فقال لي :”كيف ذلك؟ هاهي أقوالك!” وبدأ يقرأ صفحات تتلوها صفحات، مملوءة باعترافات وهميّة، قصص نسجوها من أخيلتهم، وتهم شنيعة، منها أنّني اعتديت على أحد أعوان الحرس بالعنف الشّديد وسبّبت له سقوطا بدنيّا، وكانت تلك التّهمة مدعومة بشهادة طبّيّة! في حين أنّه هو من تفرّغ لتعذيبي أسبوعين كاملين بمتعة ساديّة لا توصف، وكأنّ بيننا ثأرا قديما لا أعلمه!
كان معنا تلميذات محجّبات اعتقلن أيضا في نفس اليوم، في الرّواق الموحش أمام غرفة التّعذيب، وهم يدفعونني إليها كانوا يخرجون الأخت “ن، ز”. يجرّونها جرّا وقد تقرّحت قدماها من الضّرب، حجابها منزوع وشعرها مبلّل ومشوّش على وجهها المنتفخ من البكاء والصفع وقلّة النّوم، وجزء من جلبابها ممزّق على كتفها… رفعت إليّ عينيها فرأيت فيهما نظرة مازالت تذبحني إلى اليوم.
وحكمت المحكمة على مجموعة منّا، وكنت من ضمنها، بخمس سنوات سجنا، و1500د خطيّة، لتعويض الرّئيس على تهمة النّيل من كرامته، وحكمت على البعض الآخر بثلاث سنوات سجنا و900د خطيّة!
في سجن الكاف التقيت كمال الشارني، لكنّ عشرتنا داخله لم تدم سوى أشهر، تسامرنا خلالها وتحدّثنا عن الأحلام الّتي تهشّمت على بوّابة السّجن، وغنّينا للشّيخ إمام ومرسيل خليفة ولمحمد منير وعبد الحليم، وكتبنا رسائل حبّ لا تنتهي وأخفيناها تحت الجلود، ثمّ أفقنا بعدها ذات صباح على خبر نقله إلى سجن آخر، عرفت بعد سنين أنّه سجن الڨصرين، في حين تمّ نقلنا إلى برج الرّومي.
خمسون عاما لم تكن تكفي لأقنع ذلك الطّفل الّذي يسكن في داخلي، أنّه خسر كلّ الحروب ياابنتي!
نحن الجيل الّذي كان عليه أن يدفع صخرة الحرّيّة كسيزيف إلى قمّة جبل خيباتنا، وكلّما ارتفعت أمتارا تدحرجت من جديد على جثثنا فدهستنا وسحقتنا، لكنّنا ظللنا ننهض من أشلائنا في كلّ مرّة بقدر شقيّ كي نستأنف الرّحلة اليائسة من جديد يا ابنتي!
كان ذلك الطّفل ذو الخمسة عشر ربيعا يقف في الصّفّ أمام القسم في المعهد الثّانويّ ببوسالم، وعيناه على قاعة الأساتذة الّذين قيل يومها إنّهم في إضراب، وفجأة دخلت جحافل البوليس واقتحمت القاعة، وراحوا يدفعونهم ويصفعونهم على أقفيتهم حتّى رأى أستاذه يسقط على وجهه وتتطاير نظّاراته…يومها أحسّ أنّ تلك الصّفعة سلخت وجهه والمهانة قصمت روحه يا ابنتي!
وفي عام الخبز رأيت كيف ترمي الدّولة أطفالها للكلاب والذّئاب، في ليلة مثلجة من جانفي 84، حيث انتقلت الاضطرابات إلى كثير من المعاهد وعلمت الإدارة بإحراق معهد 9 أفريل بجندوبة، ففتحت المبيتات في منتصف اللّيل وألقت بنا كفراخ السّمانى إلى الخلاء، قالوا لنا عودوا إلى دياركم، ستتعطّل الدّراسة لأيّام، وانطلقنا في تلك اللّيلة نحو قريتنا الّتي تبعد خمسة عشر كيلومترا، نتحسّس المسالك بين الأجنّة والغابات كالعميان، والصّقيع يدمي عيوننا وأنوفنا وقلوبنا الخضراء، والمحافظ الثّقيلة على ظهورنا، والأرجل تضرب في الأوحال مثل جنود غرباء تائهين لا الأرض أرضهم ولا السّماء سماؤهم، ولم نصل إلى بيوتنا إلاّ مع الفجر، بعد ستّ ساعات كاملة من التّيه والعذاب، فكيف سأصف لك شهقة أمّي وهي تفتح الباب وتراني على تلك الحال ياابنتي!
لا أستطيع أن أتخيّل أنّ كلّ ما حدث، قد حدث من أجل لا شيء يا ابنتي!
لا أستطيع، ولا أريد، ولا أحد يستطيع أن يقنعني بأنّ كلّ ما حدث، قد حدث من أجل لا شيء!
لا أحد.