سليم حكيمي
بعد جامعة منوبة، تحتفل كلية الطب بسوسة بالزّكرة في الخمسينية!!
زمن الدّيكتاتوريات، كانت الجامعة التونسية واحة ديمقراطية في صحراء ديكتاتورية إقصاء أَزْمَن فيها الدّاء. فعوضت الحرية فيها ما فرضه القمع خارجها على الحياة السياسية. وحملت على عاتقها ما أثْقل كاهِل الأحزاب، نبعُ علم ثَرّ وتعلّم من الأساتذة والطلبة على السّواء بحلقات نقاش عميقة الغَور والسَّبر. ولأنّ العيانَ أبرُّ من الخَبر، كنت سنة 1989 شاهدا على رهافة وعي طلابي بكلية 9 أفريل بتونس، رفُض فيه السماح لوفد طلابي من لجان الثّورية للقذافي تدنيس حرمها.
في مواجهة نظام بن علي مع التيار الإسلامي في التسعينات، استلت الجامعة كلّ سهام كِنانتها ضد نظام حلمت بالإطاحة به، ولكنها انتهت بنكسة خطرة ضربت الوعي وسوّغت عبث السياسة وشوكة البوليس. وحتى لن يتمرّد فرع على أصل مجدّدا، اعتبر يسار بني عبد الدّار انه استوجب الاستئصال بالإغراء لذُباب الطّمع، والإصْلاء للأقليّة الملتزمة، والإلهاء لأغلبية التافهين والإغراق في التسلية التي هي نقيض الوعي تحت عنوان فرحة الحياة. فسُمح بالمبيتات المختلطة وحفلات الحضرة في كلية العلوم، ثم حفلات “ليلة والمزود خدام”.. ولكن تجفيف منابع التسّيس في البلاد جرفت سمعتها وقطعت قوائمها، والقت المولود مع ماء الغسيل، وآوَاها ليلُ الاستبداد الى تيه العقل. فعِوض أن تكون الفطنة هي الوعي بالجهل، صار الوعي الطُلابي يستمرئ انحطاط السّوق.
غيرت الحقائق وعي الناس بفضل وسائل الاتصال، ومتى يستيقظْ الوعي يتَّسعْ، فلسطين بوصلة عالم الأحرار حتى صار كتاب “فلسطين 100 عام من الحرب” الأكثر مبيعا في أمريكا.. وبينما أرادوا احتلال غزة احتلّت هي العقول، فأطلقوا على رئيسهم تسمية (genocide joe)، وصارت الشعوب تنادي “قد حرّرتنا غزة” بعد أن صار الجُرم الإسرائيلي ثقيلا عل الأخلاقية الغربية الواعية، وانتهى زمن المساندة المطلقة للكيان بعد رؤية الأشلاء والأرْزاء فكتبت اليهودية “نعومي كلاين” في الغارديان: “وجب الخروج الجماعي والتحرّر من صنم الصهيونية الزائف لدولة عنصرية تنتهك كل الحرمات باسمنا”، التحق بالحراك الممثل الشهير “جون كوزاك” والمطربة اليهودية “سوزان سالَندن” والتساؤل حول الإسلام لفهم أسرار الاستثناء الإنساني في غزة، وأدركوا معنى “دوستان هوفمان” حين قال: “أنا كيهودي، أرى الإنسانية توقفت على الوجود بنشأة إسرائيل”. استدعت المصرية رئيس جامعة كولومبيا الشرطة لفض اعتصام فانتشر الحراك الطلابي في حوالي 200 جامعة أمريكية، ولم ينفع تدخل رئيس مجلس النواب الأمريكي في وقف فَوْعة الشباب. صارت القضايا الخارجية قضايا انتخابية، وازداد بسببها ثمان ملايين ناخب في أمريكا. كل ما يجري شبيه بالرفض العالمي لنظام الابرتهايد العنصري في جنوب إفريقيا. لا تحقق الحركات الاجتماعية اهدفها مباشرة ولكنها تُراكم وعيا ثاويا يزهر إستراتيجيا.
ليست القيمة في معرفة الحق بل في قَوله. ولا علاقة للصهيونية باليهودية فحسب بل بالموقف من القضايا الإنسانية. فقد يكون المنتسب إليها من أية ملّة وعرق ونِحلة، فنجد صهاينة عرب، ويهود صهاينة وصهاينة مسلمين. الوعي هو حضور الله في الإنسان، والجامعة مكان بحث عن الحقيقة، ولا يمكن لمؤسّسة أن تكون أفضل من أهلها. نحصد خطة تطويع وقطع مع جامعة تنشأ فيها القيادات السياسية للبلاد، لا نتعلم فيها التفكير للتغيير للتثوير والتحرير، بل كتقنية فحسب، ثم نمر ّإلى وهم المعرفة والتعالي الزّائف. غير أن ما يحدث في جامعاتنا هو خراب السّائس والمسُوس بعروض العيساوية والدروشة، في استهتار بسياق الموت وعذاب الأحياء في فراغ الأُسوة والقدوة كالعملاق “إدوارد سعيد” الذي فرض فلسطين على الوعي الاكاديمي الأمريكي، صاحب مؤلف (The Question of Palestine) مرجعا عن الفكر الاستعماري والحركة الsoهيونية.
بل بينما ينظّر أساتذة الغرب للحرية ويتخرج من جامعاتها كبار ساسة العام، يبرر أساتذة جامعة للديكتاتورية. التغيير التاريخي باهض الكلفة لا يتشكل من عامل واحد بل عوامل متعددة. وكان حراك الجامعات الغربية دليل مصانع الفكر والشخصيات المستقلة لا “محميات بشرية” عند العرب. قال الشيخ عبد العزيز الطريفي “من يقرا كلام الصهاينة بالعبرية يجده مشابها لكلام المنافين بالعربية الفرق هو اختلاف اللغة”.
كاتب صحفي من تونس