أحزان “النهضة العميقة”
عبد اللطيف علوي
(نصّ أعيد نشره… للتّاريخ!)
مصطلح النهضة العميقة هو مصطلح ابتدعتُه منذ فترة للإشارة إلى الخميرة النّهضويّة الّتي لم تقدر أن تبتلعها الدّولة العميقة…
شاركت تقريبا في كلّ التّظاهرات الّتي دعا إليها “مواطنون ضدّ الانقلاب”، ولم يكن من العسير أن ألاحظ بمسح بصريّ عميق أو حتّى سريع، أنّ الحلقة الأولى الصّلبة للواقفين في كلّ مرّة في تلك المظاهرات، هم من جيل “النّهضة العميقة”، جيل محرقة الثّمانينات والتّسعينات، يأتون في كلّ مرّة من الأقاصي ويتحمّلون المشاقّ في سبيل أن يصرخوا للحرّيّة ولو صرختها الأخيرة.
هذا الجيل هو الآن في أواخر الكهولة وبدايات الشيخوخة، وفيه حتّى شيوخ مازالوا يحاربون الاستبداد بنفس أحلام الشّباب الّتي غدرت بهم وتركتهم منذ سنين، بندوب في الوجه والرّوح والقلب على حدّ السّواء! لأنّهم لم يعرفوا في حياتهم سوى محاربة الاستبداد، وما عادوا يتصوّرون لها معنى آخر سوى ما عاشوا عليه!
كثيرون منهم كانوا يبحثون عنّي في تلك المظاهرات، وقد يراني أحدهم صدفة فيسرع إليّ ليسلّم ويغمرني بودّ عفويّ وحديث حميم قديم، رائحته من رائحة تلك المعاناة الّتي جمعتنا في الثّمانينات والتّسعينات، هم يعرفون أنّي منهم وإليهم، مثلما يعرفون أنّ كلّ حرّ وشريف منهم وإليهم، وانظر كيف يحتضنون لمين البوعزيزي وكيف يعظّمون الحبيب بوعجيلة ونور الدّين علوي والعيّاشي الهمّامي وغيرهم، تدرك أنّ دائرة الانتماء بالنّسبة إليهم قد اتّسعت مع الأيّام والسّنوات حتّى صارت تشمل الكثير من المختلفين وإن سلكوا طريقا آخر، لكنّه يؤدّي في النّهاية بالضّرورة إلى نفس الخندق!
الحلقة الثّانية للمشاركين هي في الغالب من فروعهم، أبناء وأحفادا أو أبناء عمومة، يعني من نفس الدّائرة الّتي عاشت محنة التّعذيب والتّغريب في الوطن، فبقي الأبناء يحملون في ذاكرتهم رواسب المأساة وتفاصيل الحكاية، حكاية المحنة الطّويلة والعمر المهدور بين السّجون والمحاكم ومراكز البوليس وساحات النّضال. بعض هؤلاء نهضويّون بالوراثة أو بالاقتناع، وبعضهم ائتلافيّون ينهلون من نفس المنبع لكنّهم يثورون على سياسة الآباء الّتي لم تؤدّ إلاّ إلى مزيد من فرعنة الفراعين.
كنت أمارس هوايتي القديمة في قراءة الوجوه وتشريح النّظرات، فأرى أمامي جيلا متعبا حزينا حائرا مستنزفا، يكاد يقتله اليأس لكنّه يرفض السّقوط والاستسلام.
جيل أثقلته المسافات الطّويلة وأنهكه الجحود والخذلان والنّكران، من داخل الحركة ومن خارجها على حدّ السّواء،
جيل هو الأكثر صبرا، وتحمّلا، وغفرانا، وتسامحا وتجاوزا لأخطاء الأعداء والأحباب،
جيل تعلّم كيف يصبر صبر الجمال، نصر قادته في الشّوارع وفي المنافي وفي السّجون، فخذلوه على الكراسي وفي مواقع القرار، وتصدّر بعض الفتية الذّهبيّين الّذين تبجّحوا بأنّهم لم يقوموا بتشغيل نهضويّ واحد، مثل العذاري، أو مثل الحمّامي الّذي صنعوا له سلالم من نضالاتهم فتسلّقها وطوّف بين الوزارات لينتهي اليوم بوقا للانقلاب، أو مثل بعض الانتهازيّين الّذين يعرفهم الجميع بأسمائهم وبأوصافهم ولا داعي إلى ذكرهم!
هذا الجيل الّذي يقف اليوم حائرا مكرها خلف نجيب الشّابي، أملا في استرجاع شظايا من حلم تهشّم مرّة أخرى بلا سبب واضح، هذا الجيل المنبوذ من نخب الإعلام والسّياسة والمال والأمن، المطعون بكلّ خناجر التّشويه والإقصاء والمطارد بآلاف الأكاذيب والوصوم.
هذا الجيل الّذي تنحدر اليوم شمسه بسرعة أكبر نحو الغروب، كلّ يوم يسرق الموت أحد فرسانه ويشيّع إلى مثواه الأخير في جنازة باردة حزينة بلا نعي ولا تأبين،
هذا الجيل الّذي تذبحه الحيرة ولا يعرف أين وقع الخلل بالضّبط، لقد ضحّى لعقود طويلة وأعطى زهرة العمر في سبيل مشروع آمن به، لكنّ المشروع تبخّر واختفى فجأة يوم جاء أناس لا يعرفهم وقرّروا أن يمارسوا السّياسة بلا مشروع.
للأسف، لم يبق اليوم في ساحات المعركة المريرة الطّويلة ضدّ الاستبداد، سوى بقايا ذلك الجيل المتعب المغدور، السّاحة تفرغ عاما بعد عام ويوما بعد يوم، كالغابة الّتي تحترق مع مرور السّنين ولا تتجدّد، والقادم مظلم ومخيف.
•••
على هامش النّقاشات الّتي دارت حول تدوينة “أحزان النهضة العميقة”، إليكم هذا الفاصل “الطّنويري”:
بعض الإخوة من النّهضة مازالوا يعتقدون أنّ ترشيح سيف الدين مخلوف لرئاسيّات 2019 هو الّذي أسقط مورو من الدّور الأوّل، ومنهم من استطاع أن يحسم الأمر بحسبة بسيطة: الـ 5% الّتي تحصّل عليها مخلوف لو لم يترشّح لذهبت إلى مورو ومرّ إلى الدّور الثّاني ولكان الحال غير الحال!
أوّلا أنا أعتذر لإخوتي في الائتلاف لأنّني سأقدّم شهادة لم أستشرهم فيها! ولكنّني أعتقد أنّنا مدينون جميعا لهذا الشّعب بالحقيقة كاملة ولا شيء غير الحقيقة!
ثانيا، يهمّني أن أوضّح ما سأوضّحه الآن، لأنّني كنت من مهندسي ذلك التّرشّح، ودافعت عنه باستماتة، ومازلت إلى اليوم مقتنعا بأنّه كان الخيار الأصوب.
قبل يوم الاقتراع، دعينا إلى اجتماع مع قيادة النهضة، أنا وسيف ويسري على ما أذكر، وحضر من الجانب الآخر الغنوشي ومورو واللّوز.
كان اللّقاء لتبادل وجهات النّظر حول حظوظ المترشّحين في تلك الانتخابات، والحقيقة أنّ قيادة النهضة لم تطلب منّا بشكل مباشر سحب ترشيح سيف الدّين، لكنّها كانت تريد أن تسمع وجهة نظرنا ودوافعنا إلى ذلك، وطرحت فرضيّة الانسحاب لدراسة نتائجها، وهل كانت فعلا ستغيّر من حظوظ مورو في تلك الانتخابات.
الجواب كان ببساطة أنّ ترشيح سيف الدّين كان ضرورة قصوى للانتخابات التشريعيّة، لأنّه في غياب الإمكانات الّتي تمتلكها باقي الأحزاب، منبر اللّقاءات الإعلاميّة لسيف كان هو الفرصة الدّعائية الكبرى والوحيدة للتعريف ببرامجنا، للائتلاف بكلّ قائماته الانتخابيّة في كلّ الدوائر.
الحقيقة الثّانية والّتي فهمها الغنوشي ومورو يومها، أنّ جمهور الائتلاف في ذلك الوقت لا علاقة له بجمهور النّهضة، كان جزء كبير منه من أبناء الصّفّ الثوري الذين يرون أنّ النهضة قد غدرت بهم عن طريق سياسة التوافق والأيدي المرتعشة والتحالف مع النداء، وجزء من المحافظين الّذين أنهكهم الـ s17 واعتبروا النهضة شريكة في اضطهادهم، وجزء من نصف المليون الغاضبين من النهضة ولم يصوّتوا في 2014 لأنّهم اعتبروا لأسباب تخصّهم أنّها فشلت في مواجهة اتحاد الشّغل والإعلام واللّوبيّات ولم تضع الملفّات الحقيقية على الطّاولة وتحوّلت فقط إلى حزب سلطة يدير العجلة لا أكثر ولا أقلّ!
كانت الخلاصة التي توصّلنا إليها واقتنع بها الجميع، بما فيهم الشّيخ راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو نفسه، أنّه حتّى ولو انسحب سيف فلن يغيّر ذلك من الأمر شيئا، لأنّ جزءا كبيرا من ناخبينا سيذهب مباشرة إلى قيس سعيد لأنّه سيجد نفسه في مقولات الطّهرانيّة والنّظافة وتجريب الجديد الخارج عن الأحزاب، وجزءا ثانيا سيذهب إلى عبّو لأنّه سيجد نفسه في مقولات محاربة الفساد ودولة القانون الّتي كان يتشدّق بها، وجزءا آخر سيذهب إلى المرزوقي، وما أقرب سيف من المرزوقي… والجزء الآخر سيعود إلى عزوفه ويمتنع عن التّصويت ويتمترس مرّة أخرى بمقولات الانتخابات حرام، أو السياسيين بكلّهم كيف كيف إلى غير ذلك…
مورو نفسه اقتنع تماما وصادق يومها على كلامنا بكل وضوح، وانتهى اللّقاء بكلّ ودّ دون أن يطلبوا منّا سحب مرشّحنا.
بعض الإخوة النّهضاويّين لا يريدون إلى اليوم مواجهة الواقع ودراسة الأسباب الحقيقيّة الّتي أدّت إلى هزيمة مورو، من ذلك الجعفريّة الكبرى الّتي رافقت تكوين القائمات التشريعيّة وما رافقها من غضب جزء هامّ من قواعدها، والتّأخير في ترشيح مورو وعدم تجنيد كلّ طاقاتها وإمكانيّاتها للحملة الرّئاسيّة وشخصيّة مورو في حدّ ذاتها، الّتي لم يكن عليها إجماع كاف داخل النّهضويّين أنفسهم فما بالك خارجهم، حيث يراه البعض متقلّبا مزاجيّا وثمّة حتّى من لم يغفر له موقفه من الحركة في بداية التّسعينات!
الحديث يطول في كلّ هذه المواضيع، وأعتقد أنّه على الكثيرين من الإخوة النّهضويّين أن يعودوا لقراءة ما حدث طيلة العشريّة السّابقة بكثير من الهدوء والعقلانيّة والتّجرّد والتّواضع أمام التّجربة، لأنّه من السّهل دائما أن تضع الآخرين باستمرار في محلّ اتّهام، ولكن من الصّعب حقيقة، أن ننقد تجاربنا ونعيد قراءتها وتقييمها بكلّ شجاعة، قبل أن نرمي المسؤولية على الآخرين!