سامي براهم
من الأسئلة القديمة المتجددة التي طرحت بحدة بمناسبة طوفان الأقصى بغزة 7/10/2023 ما يتعلق بكيفية تفاعل المنظومة الغربية الرسمية بكل مكوناتها “دولا ومؤسّسات وإعلاما ونخبا ومنظّمات وهيئات …” والتي يكاد يجمع المتابعون على وصفها بازدواجيّة المعايير والكيل بمكيالين. بل بدأنا نشهد تعالي بعض الأصوات من داخل المنظومة الغربيّة نفسها للتّعبير عن الغضب من حالة الازدواج التي اتّسمت بها القرارات الرّسميّة والخطاب السّياسي والإعلامي والنّخبويّ الغالب حيال الوضع الإنساني الكارثي في غزّة جرّاء خيار القوّة العسكريّة التّدميريّة الغاشمة الذي تستهدف المدنيين.
هذا يدعو إلى طرح السّؤال على الضمير الغربي والحداثة الغربيّة والمنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان لتفكيك العقل الذي يصدر عنه هذا الازدواج في المعايير وفهم خلفيّات هذا الدّعم غير المشروط لدولة الاحتلال الإسرائيلي، رغم كلّ ما ارتكبته من جرائم منافية للمواثيق الدّوليّة للحقوق وخاصّة القانون الدّولي الإنساني الذي يطلق عليه قانون الحرب والذي يتضمّن مجموعة من القواعد التي ترمي إلى الحدّ من آثار النّزاعات المسلّحة على المدنيّين وتفرض قيودا على وسائل الحرب، ومن أهمّ هذه القواعد ما وقع إقراره في اتفاقيات جينيف.
1. المركزيّة الثقافيّة للحداثة وإنتاج التّمييز والعنف
أوّل ما يمكن استدعاؤه للجواب عن الأسئلة السّابقة هو البحث في العقل الحداثي الغربي ذاته عن المفارقة بين السّياقات الغربيّة المحليّة التي أنتجته بكلّ هواجسها وسرديّاتها والمعارف المصاحبة لها، والنّزوع لتعميمها وإضفاء طابع الإنسانيّة الكونيّة عليها. هذا الضّرب من البحث هو الذي يمكّننا من تجاوز المعياريّة في الحكم على الغرب باعتباره غربا كافرا معاديا للإسلام islamophobe وللعرب ولثقافة الجنوب عموما، إلى التفسير الموضوعي الذي يمكّن من فهم كنه المفارقة التّاريخيّة الصّارخة التي جعلت النّهضة الأوروبيّة بأفقها التنويري العقلاني والحقوقي تعقبها حركة استعماريّة لا تزال متواصلة مع الكيان الصّهيوني بنفس ما صاحبها سابقا من جرائم حرب وانتهاكات جسيمة بحقّ الشّعوب المستعمَرَة.
والملاحظ في هذا الصّدد أنّه رغم كلّ المنجز المعرفي للعلوم الإنسانيّة خاصّة المتحرّرة نسبيّا من النّظرة الاستشراقيّة، بقي العقل الغربي مسكونا بصورة متخيّلة ثاوية في اللّاوعي الجمعي عن ثقافة الرّجل الأبيض القائمة على التفوّق العرقي وتصنيف الشّعوب والحضارات والثّقافات ضمن ترتيب تفاضلي جعل بعض الشّعوب في أسفل السلّم.
وقد عبّر عن هذه الثّقافة فلاسفة مرموقون يصنّفون ضمن فلاسفة الأنوار. ونجد آثار هذه الثّقافة التي تكرّس ازدواج المعايير لدى دايفيد هيوم 1711م/1776م الفيلسوف البريطاني صاحب المنهج التّجريبي في دراسة الطّبيعة البشريّة، حيث يعتبر الزنوج أدنى منزلة من البيض بل هم في أدنى سلّم الذّكاء والمواهب الفطريّة، ويفسّر بقاء الزّنوج في وضع التخلّف والدّونيّة بعد انتقالهم من مواطنهم الأصليّة إلى العالم المتحضّر بلونهم وعرقهم، لذلك لم يبرز منهم العلماء والفنّانون رغم تحرّرهم من العبوديّة، وفسّر ذلك بخصائصهم البيولوجيّة التي تحول دون ذلك لا إلى معطيات سوسيولوجيّة تتعلّق بوضع الاستعباد والاضطهاد العرقي، بل لون البشرة عنده عنوان على الاستعدادات العقليّة. وهي نفس المرجعيّة التي لا تزال تقود مجاميع غربيّة في نظرتها للعرب والمسلمين والأفارقة والشّرقيين عموما، خاصّة المقيمين في دول الغرب ومجتمعاته ولا يزالون يواجهون العنصريّة والإسلاموفوبيا وجدل الاندماج والاستيعاب في مجتمعات تضيق بالمختلف الذي ينتمي لثقافة الجنوب. وربّما نجد كذلك تفسيرا لعسر تقبّل واستيعاب من يصدرون عن ثقافة الشّرق في العقد الاجتماعي لروسو نفسه فيلسوف التنوير، حيث يقوم عقده على المركزيّة الأوروبيّة وشعوبها المؤهّلة للتّعاقد وعقولها القابلة للتنوير، دون غيرها من شعوب الشّرق المتخلّف.
وهذا إيمانويل كانط 1724 م /1804 م الفيلسوف الألماني يقسّم الأجناس البشريّة تفاضليّا ضمن هرمه العرقي، فيجعل الهنود في أدنى سلّم الذّكاء، حيث اللّون والجنس البشريّ عنده محدِّدان للأفضليّة العرقيّة والمواهب الطبيعيّة بل حتّى للخصائص الوجدانيّة والبناء النّفسي. ضمن هذه المعايير اعتبر الهنود متبلّدي الذّوق فقراء عاطفيّاً، وبمقتضى هذا التّصنيف العرقي جعل كانط الرّجل الأبيض هو الإنسان الكامل ضمن منظومة فلسفيّة عنوانها الأبرز ويا للمفارقة الفلسفة الأخلاقيّة.
وقد كانت هذه الثّقافة التّمييزيّة مبرِّرة لاستعباد أجناس وأعراق واستعمار شعوب بقصد تنويرها وإخراجها من دوائر التخلّف المتأصّل بطبعه فيها، وجعلها في خدمة الرّجل الأبيض الذي انتخبته الطّبيعة للتّفكير العلمي والفلسفي وبناء الحضارة وقيادة العالم.
هذا التّصنيف التّمييزي مارسته المركزيّة الأوروبيّة على شعوب إفريقيا وشعوب الشّرق عموماً، ولا سيما العرب والمسلمين الذين وصمهم المستشرق الفرنسي آرنست رينان في محاضرة شهيرة عنوانها “الإسلام والعلم” بضعف التّفكير العقلي المجرّد وبغض الفلسفة نتيجة لطبيعة العقل السّامي البسيطة المنغلقة، مع استعادته لنفس التقسيم التفاضلي التّمييزي للشّعوب حيث اعتبر العرب بدواً، والأتراك منحطّين أخلاقيّاً وعقليّاً، وقد ردّ جمال الدّين الأفغاني على هذه الأطروحة العنصريّة.
ويمكن أن نستعرض أمثلة عن عديد المفكّرين المصنّفين ضمن فلاسفة التّنوير، وما حفلت به كتبهم من مواقف عنصريّة لا تزال تشكّل قاع الضّمير الجمعي للنّخب الغربيّة الماسكة بزمام السّلطة، أو المنتجة للمعرفة والرّموز والقيم، فضلاً عن عموم شعوب الغرب التي لا تزال مسكونة بالمعياريّة الثّقافيّة القائمة على التّمييز باعتبار الأصل الطبيعي للأعراق والأجناس.
هذه المعياريّة التي تلتقي مع مفهوم الأغيار “الغوييم” في الثّقافة اليهوديّة الأرتودوكسيّة هي التي تفسّر في تقديرنا تواصل التمييز العنصري والإسلاموفوبيا وكره الأجانب رغم ما حقّقته فلسفة حقوق الإنسان من إنجازات قانونيّة وسياسيّة وأخلاقيّة وإيتيقيّة متقدّمة بحقّ المختلف عرقاً ولونا وثقافة، وما يستدعيه ذلك من توفير شروط التّعايش والأخوّة الإنسانيّة والحرص على السّلام العالمي.
كما تفسّر هذه المعياريّة الدّعم غير المشروط الذي تحظى به دولة إسرائيل باعتبارها خلاصة الحداثة الغربيّة وجمّاع شتات العالم المتحضّر القادمة من الشّتات Diaspora. مقابل ذلك بقيت النّظرة للفلسطينيّ باعتباره ينتمي إلى عالم التوحّش والبداوة والفوضى وحثالة الشّعوب ولا يستحقّ أن يُعْتَرَفَ له بما وقع إقراره في مواثيق المنظومة الدّولة للحقوق من حقّ الشّعوب في تقرير مصيرها ومقاومة الاحتلال والدّفاع المشروع عن النّفس وبناء دولة ديمقراطيّة.
هذا الحقّ يصطدم بموروث عنصري ضارب في القدم، عميق الغور في ثنايا الذّاكرة الجماعيّة والثّقافة الغربيّة منذ أرسطو إلى مارتن لوثر فيلسوف الإصلاح، الحامل لأشدّ الأفكار تعصّباً وعنصريّة ضدّ اليهود والسّود، إلى فلاسفة التنوير. بل يمتدّ حتّى إلى فلاسفة ما بعد الحداثة الغربيّة، فهذا النّاقد الفرنسي جاك دريدا 1930م/ 2004 م فيلسوف الاختلاف بلا منازع يصرّح في إحدى محاضراته بما صدم متابعيه، حيث اعتبر أن لا وجود لفلسفة خارج دائرة العقل الغربي، بما يعنيه ذلك من إعادة إنتاج نفس براديغم أصل الأجناس وأنماط العقول وتفاضل الأعراق والشّعوب باعتبار الأصل الطبيعي لا التاريخ الاجتماعي والثّقافي، رغم أنّ العلوم الحديثة بيّنت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ صفاء العرق خرافة، وأنّ التّفاوت والتّفاضل باعتبار اللون أو الجنس أو العرق أو المعتقد ليس سوى سرديّة سياسيّة استعماريّة لتكريس الهيمنة وتبرير اضطهاد الشّعوب، ونهب خيراتها، واستخدام مواطنيها الذين لم يرتقوا بعد إلى مرتبة الإنسان، لذلك دماؤهم أرخص من دماء غيرهم وحرمتهم لا تعادل حرمة الفرد الغربي، بل هم كما وصفهم رئيس وزراء الكيان الصّهيوني حيوانات بشريّة إلى ترتق إلى مرتبة الإنسانيّة، لذلك لا حرج أخلاقيّ أو قانونيّ في قصفهم وإبادتهم وإراقة دمائهم وتهجيرهم لتبقى أرض فلسطين خالصة لشعب الله المختار ودولته التي تعتبر في نفس الوقت وعدا إلهيّا أبديّا خالصا لليهود وخلاصة مكثّفة للحضارة الغربيّة المتقدّمة.
2. إثم المحرقة Shoah
التّفسير الثّاني لمساندة الغرب لدولة الاحتلال الصّهيوني دون قيد أو شرط مهما ارتكب من جرائم بشعة في حقّ الفلسطينيين والتي يقابلها تنديد شديد بكلّ تحرّك مقاوم للاحتلال وجرائمه وانحياز فجّ للجلّاد ضدّ الضحيّة، يكمن في الضّمير الغربي المثقل بعبء ما أطلق عليه كارل ماركس بالمسألة اليهوديّة وإثم المحرقة وما سبقها من اضطهاد أوروبيّ لليهود طيلة قرون على امتداد القارّة الأوروبيّة توجّت بالهولوكست.
لا بدّ من التّأكيد في هذا الصّدد على أنّ اللّاساميّة التي يُرْمَى بها مقاومو الاحتلال الصّهيوني وكلّ من يناصرهم كانت سياسة رسميّة بيروقراطيّة ممنهجة ضدّ اليهود، وثقافةً سائدة في المجتمعات الأوروبيّة، وعقيدة دينيّة رسميّة للكنيسة الكاثوليكيّة والبروتستانتية على حدّ سواء، حيث يعجّ كتاب مارتن لوثر زعيم الإصلاح الدّيني الموسوم بـ “عن اليهود وأكاذيبهم” بأقذع الأوصاف في حقّ اليهود، حيث وصفهم ببراز الشّيطان والدّيدان السامّة وأبناء الزّنا ودعا بشكل صريح لاضطهادهم وقتلهم وحرق معابدهم ومدارسهم ومصادرة ممتلكاتهم. كما أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة بقيت تحمّل اليهود كافّة على امتداد قرون إثم دم المسيح والمسؤوليّة عن قتله، وتعتبره إثما متوارثا جيلا بعد جيل من الآباء إلى الأبناء والأحفاد، ولم يقع تبرئتهم من ذلك الوزر الجماعي المتوارث إلّا سنة 1965 في المجمع الفاتيكاني الثّاني في وثيقة نوسترا آيتاتي التي وقّع عليها بابا الفاتيكان يوحنّا الثّالث والعشرون وألغيت بمقتضاها من مناهج التّدريس الدّيني الكنسي والصّلوات والمواعظ كلّ إحالة على مسؤوليّة اليهود عن دم المسيح، وكان ذلك منعرجا في تطبيع العلاقة بين الكنسية الكاثوليكيّة ورعاياها ودولة إسرائيل.
إنّ ما ارتكبه الزّعيم النّازي أدولف هتلر في حقّ اليهود من إبادة جماعيّة لم يكن عملا فرديّا معزولا لحاكم نازيّ مجنون متعطّش للدّماء بل تجسيدا للوجدان الأوروبي المعادي لليهود على امتداد قرون والسّرديّات المتوارثة التي تعبّر عن كرههم ونبذهم.
وبعد سقوط النّازيّة وقيام الحركة الصّهيونيّة التي وظّفت مظلوميّة اليهود لتحقيق حلم الدّولة اليهوديّة التي تجمع شتات اليهود في العالم، لم يكن أمام الغرب للتخلّص من عبء اليهود والتّكفير عن خطيئة اضطهادهم الممنهج والتخفّف من عقدة الذّنب إلّا مساندة المشروع الصّهيوني في توطين اليهود واحتلال فلسطين وتهجير أهلها وسكّانها الأصليين والدّعم غير المشروط لكلّ ما يمكّن من إقامة دولة على أرض دون شعب كما وقع التّسويق لذلك للترضية وجبر الخواطر حتّى لو كان ذلك على حساب المعايير التي اتخذها الغرب عنوانا للحداثة والمدنيّة.
لقد شكّلت دولة الكيان الإسرائيلي المزروع في فلسطين خطّا أحمر في ضمير الغرب لسببين اثنين، الأوّل أنّ إنشاء دولة تجمع شتات يهود العالم هو الحلّ الذي ارتأته أروبا لمعالجة معضلة اندماج اليهود أو انعزالهم في أحياء الغيتو ghetto فكانت الهجرة الجماعيّة ليهود أروبا سبيلا للتخفّف من عبئهم وتعويضا لهم عمّا لحقهم من اضطهاد، وكلّ فشل لهذه الدّولة ينذر بعودة المعضلة اليهوديّة من جديد من خلال الهجرة المضادّة إلى أوطانهم الأصليّة التي غادروها بدفع من الدّعاية الصّهيونيّة، أمّا الثّاني فإنّ الدّولة العبريّة التي قامت على مظلوميّة المحرقة تذكّره بوجهه القبيح وجرائمه البشعة التي يداريها بمساندة ضحيّته التّاريخيّة حتّى لو أدّى ذلك إلى ارتكاب ضحيّته “اليهود” بحقّ من احتلّ بلادهم “الفلسطينيين” نفس الجرائم التي ارتكبت في حقّه سابقا ليكون الفلسطينيّون ضحايا لنفس الضحيّة التي يُرَادُ التحرّر من إثم اضطهادها.
هكذا يكفّر الضّمير الغربي عن آثام ارتكبها بالتّواطؤ مع ارتكاب نفس تلك الآثام بحقّ ضحيّة جديدة لتكريس المهزلة في أجلى مظاهرها، رغم ترسانة العهود والمواثيق والاتفاقيات التي تمكّن من الوقوف في موقع أكثر اتّزانا وإنصافا واعتدالا وضمانا لعدم إنتاج ثقافة المظلوميّة والتأثّم من جديد.
3. دولة رعاية المصالح
عندما كان الرّئيس الحالي للولايات المتّحدة الأمريكيّة جون بايدن نائبا في الكونجرس الأمريكي وجّه خطابه لمن يريدون من ساسة بلده أن يعتذروا عن دعمهم غير المشروط لإسرائيل فكان جوابه رفض الاعتذار لأنّ دعم دولة إسرائيل كما قال ” أفضل ثلاثة بلايين دولار استثمرناها، لو لم تكن هناك إسرائيل لتعيّن على الولايات المتّحدة الأمريكيّة اختراع إسرائيل أخرى لتحمي مصالحها في المنطقة” وهو نفس ما كرّره عند بداية الأحداث في غزّة.
ويحيل هذا التّصريح على التّفسير الثّالث الذي نطق به عدد من زعماء الدّول ونخبها وخبرائها ويتعلّق برعاية مصالح الغرب في الشّرق بالوكالة عن دول الغرب ودوائره الماليّة والاقتصاديّة. هذا الدّور الموكول للكيان الصّهيوني والذي تُنْفَق فيه الأموال ويُمَدُّ بالسّلاح والتّكنولوجيات المتقدّمة وتحرّك من أجله البوارج الحربيّة يضعنا أمام حقيقة أنّ دولة الكيان الصّهيوني ليست سوى شركة استثمار كبرى وداعموها شركاء مستثمرون وأصحاب أسهم في رأسمالها يتقاسمون أعباءها ومنافعها ويحرصون على تنمية أرباحها وحمايتها بالسّلاح مثل أيّ عصابة تحمي مواردها ونشاطها وأرباحها.
إنّ حيويّة دولة إسرائيل واستمرارها كما ورد على لسان عدد من السّاسة ضمان لاستمرار مصالح دول الغرب الاقتصاديّة والأمنيّة في منطقة ذات أهميّة جيواستراتيجيّة غنيّة بالموارد الطبيعيّة ومفتوحة على مشاريع كبرى قد تغيّر بنظر مهندسيها وجه المنطقة ومستقبلها بشكل جذريّ يغلق فيه بشكل نهائيّ حاسم القوس على أي إمكانيّة لنهضة عربيّة خارج دائرة الهيمنة الغربيّة لتتحقّق بذلك نبوءة نهاية التّاريخ والإنسان الأخير لفرانسيس فوكوياما وختمه مع النّموذج الحضاري الغربي حيث الرّأسماليّة والليبيراليّة هما أعلى نموذج للفكر الاقتصادي والسّياسي. وقد ورد هذا المعنى صريحا في خطاب رئيس وزراء الكيان الصّهيوني بنيامين نتنياهو للرئيس الفرنسي عند زيارته لتلّ أبيب لتقديم الدّعم والتعبير عن الولاء لإسرائيل “إذا انتصرت حماس سنخسر جميها، وسيكون الأوروبيّون والحضارة في خطر”.
هذا ما يفسّر في تقديرنا استنفار دول الغرب لدعم إسرائيل وما أقدمت عليه من استعمال مفرط للقوّة العسكريّة التّدميريّة وتجيير الإعلام والنّخب للدّفاع عن كلّ ما ترتكبه من جرائم وتبريره، بل واتّهام ناقدي سياساتها باللّاساميّة في خلط متعمّد ومقصود بين معاداة اليهود ونقد دولة الاحتلال والتّعبير عن التّعاطف مع ضحاياها حتّى لو كانوا من المدنيين. كلّ ذلك بقصد إسكات الرّأي المخالف للسّرديّة الرّسميّة عمّا يحدث في غزّة والتي تريد أن تكرّس تمثّلا مغلوطا يجعل المعركة بين دولة ديمقراطيّة حداثيّة متحضّرة تمثّل نموذجا متقدّما للعالم الحرّ، والإرهاب الإسلامي البربري المتوحّش ممثّلا في حركة حماس وذراعها العسكريّة وكلّ من يتعاطف معها، بل المدنيّون في غزّة أنفسهم إرهابيّون طالما لم ينقلبوا على حماس ولم يقبلوا بالتّهجير.
إنّ التّفاسير الثّلاثة التي أوردناها تظهر في ثنايا الخطاب السياسي والإعلامي والأكاديمي سواء المنطوق أو الضّمني، وقد انفجر مكبوت هذا الخطاب مع تصاعد وتيرة الأحداث في غزّة وارتداداتها في الغرب وما خلّفته من خوف على استقرار دولة الكيان الصّهيوني واستمراها، بما يؤكّد أنّ قضيّة غزّة اتّخذت طابع القضيّة العالميّة التي تتجاوز حدود هذه الرّقعة المحدودة جغرافيّا الأشبه بسجن ذي سماء مفتوحة والتي تضمّ أكبر كثافة سكانيّة في العالم.
كلّ التّحليل الذي استعرضناه لا يجب أن يكون مدخلا لإعادة إنتاج سرديّة صراع الحضارات ومعاداة الغرب ونبذ مكاسب الحداثة بل هو دافع للعمل على تحرير الشّرق والغرب على حدّ سواء من ثقافة الهيمنة والقابليّة للهيمنة ومدّ الجسور بين أنصار القيم الإنسانيّة وعولمة العدالة في الشّرق والغرب، وتوسيع دائرة تواصلهم وتشبيك علاقاتهم خاصّة الباحثين الأكاديميين من ضفّتي الشّمال والجنوب لمراكمة ثقافة مضادّة للهيمنة الاستعماريّة بوجهها الليبيراليّ المتوحّش ووجهها السّياسي والثّقافي الكِلياني.
إسرائيل هي خلاصة المركزيّة الثّقافة الغربيّة وعولمة رأس المال المتوحّش لذلك لا يجب مقاومتها بنفس مقوّمات ثقافتها، بل يتعيّن استدعاء خلاصة منظومات القيم الإنسانيّة في ثقافة الذّات وكلّ روافد الثّقافة الإنسانيّة. ولعلّ مشهد الأسيرة اليهوديّة المحرّرة التي تعود أدراجها عند تحريرها لتصافح الجنديّ الذي رافقها وتقرئه السّلام بلكنتها العبريّة صورة من صور تلك الثّقافة التي تصدر عن وصايا نبيّ الإسلام للمحاربين:
لا تقطعوا شجرةً، ولا تقتلوا امرأةَ، ولا صبيًّا، ولا وليدًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا مريضًا، ولا أصحاب الصّوامع، ولا تمثّلوا، واستوصوا بالأُسَارَى خيرًا ” فَإِمَّا مَنّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً” محمّد الآية 4
وهي نفس القيم التي يتضمّنها القانون الدّولي الإنساني.
نشريّة الباحث بالسّيراس عدد خاصّ بالقضيّة الفلسطينيّة