منع التداول في قضية ” التآمر” : الصمت سجن في الهواء الطلق
عبد السلام الككلي
أكدت النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس بأن قرار ختم البحث الصادر عن قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب بتاريخ 12 أفريل 2024 ، فيما يعرف بقضية «التآمر على أمن الدولة»، قد نص صراحة على «بقاء قرار منع التداول الإعلامي في حيثيات الملف ساريا إلى حين تعهد المحكمة المختصة في الأصل». وشددت النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس، وفق تصريح أدلت به حنان قداس الناطقة الرسمية بإسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب لـ (وات) في 23 أفريل 2024، أن كل تداول إعلامي في حيثيات الملف، «يعد مخالفة لذلك القرار، ويترتب عنه تتبعات جزائية طبق النصوص الجاري بها العمل» وأوضحت النيابة العمومية، أن هذا القرار جاء «تبعا لما تمت ملاحظته من تناول لحيثيات ما عرف إعلاميا بملف «التآمر على أمر الدولة»، الذي تعهدت به دائرة الاتهام المختصة بمحكمة الاستئناف بتونس، بناء على قرار ختم البحث الصادر عن قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب»، وفق ذات المصدر.
كما قرّرت دائرة الاتهام يوم 2 ماي 2024 الإبقاء على قرار منع التداول الإعلامي في حيثيات قضيّة الحال إلى حين إحالة ملف القضيّة على المحكمة المختصّة وهي الدائرة الجنائية المتخصصة في قضايا الإرهاب.
- وبناء على تواصل منع التداول في قضية الحال حتى بعد وصول الملف الى دائرة الاتهام وخروجها عن أنظار حاكم التحقيق فتحت النيابة بحثا تحقيقيا في حق الصحافية بالإذاعة الخاصة “آي.أف.أم”، خلود المبروك والممثل القانوني للإذاعة حامد السويح. وتم الأربعاء 25 أفريل 2024 سماع أقوالهما من قبل الفرقة المختصة للحرس الوطني بثكنة العوينة بشأن حوارين أجرتهما المبروك مع كل من سمير ديلو، عضو هيئة الدفاع في ما يعرف بقضية “التآمر على أمن الدولة” ومع الوزير الأسبق مبروك كورشيد المشمول بعدد من القضايا كما تم الاستماع الى عضو هيئة الدفاع في قضية «التآمر» سمير ديلو من قبل الوكالة العامة لمحكمة الاستئناف بتونس بتهمة ارتكاب «جريمة مخالفة المراسلة».
هل يتطابق قرار حاكم التحقيق ودائرة الاتهام مع القانون؟
لن نتوقف عند المبادئ الدستورية والقانونية والحقوق الدولية الضامنة لحرية التعبير والتي تصون العمل الصحفي فقد أطال الصحافيون في الحديث عنها بل سنستعرض في عجالة النصوص التي تحد من هذا الحق في صلة بأعمال التحقيق القضائي وذلك من اجل اختبار مدى تطابق قرار حاكم التحقيق مع هذه التحاجير القانونية.
يصون القانونان التونسي والمقارن أعمال التحقيق من اجل المحافظة على سريتها وحماية للمعطيات الشخصية لذوي الشبهة في فترة البحث الأولي. فالفصل 61 من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر يحجّر نشر وثائق التحقيق قبل تلاوتها في جلسة علنية ويعاقب مرتكب ذلك بخطية تتراوح بين ألف وألفي دينار كما ينص الفصل 62 على انه يحجّر التناول الإعلامي لأي قضية من قضايا الثلب وثبوت النسب والطلاق والإجهاض. وذلك حفاظا على سمعة الأشخاص وشرف الأفراد والعائلات.
ولا يوجد في القانون التونسي ما يسمح حتى لحاكم التحقيق نفسه قبل ختم البحث وتوجيه التهمة لذي الشبهة بإعطاء أذون في نشر معطيات ذات علاقة بالتحقيقات والإذن الوحيد الذي يسمح به القانون هو الذي تسلمه المحكمة لنشر كل أو بعض من الظروف المحيطة بالمحاكمات المتعلقة بالجرائم أو الجنح المنصوص عليها بالفصول من 201 إلى 240 من المجلة الجزائية وذلك بطريقة النقل كالهواتف الجوالة أو التصوير الشمسي أو التسجيل السمعي أو السمعي البصري أو بأية وسيلة أخرى. وبذلك يكون القانون التونسي مطابقا للضمانات الدولية للمحاكمة العادلة التي تستوجب سرية التحقيقات في الأطوار الأولية للأبحاث ولا يسمح برفعها إلا في طور المحاكمة حيث تكون الجلسات علنية
ويحظر القانون الفرنسي نشـر القرارات الاتهامية وكل أعمال التحقيق الجنائي أو الجنحي قبل تلاوتها في جـلسـة عـلنية، تحت طائلة غرامة مـقدارها 750 3 يـورو. كما يـحظر -تحت طائلة نفس العقوبة- نـشـر أيّـة مـعـلومـة خاصة بـأعـمـال ومـداولات مجلس القضاء الأعلى، باسـتثناء المـعـلومات الخاصة بالجلسـات العلنية، والقرارات العلنية التأديبية بـحـق القـضاة ويبقى بالإمكان نشر المعلومات الصادرة عن رئيس المجلس. ويربط القانون المصري بين أعمال التحقيق والسر المهني حيث يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تتجاوز خمسمائة جنيه كل من تسمح لهم وظائفهم أن يتصلوا بأعمال التحقيق إن أفشوا أسرارا منها وسبب التأكيد على سرية التحقيق ظاهر بين وهو أن تفاصيله لم تصل بعد إلى غايتها وهي كشف الحقيقة، وقد يؤدي إفشاء البعض منها إلى التأثير على الشهود أو التلاعب بآثار الجريمة وأدلتها، أو العبث بمعالمها.
توسع يجعل من الإعلام جريمة
تقع كلمة «التداول» في نص القرار الأصلي الصادر عن حاكم التحقيق يوم 16 جوان 2024 [1] أو نفس قراره في قرار ختم البحث في 12 أفريل 2024 أو قرار دائرة الاتهام في 2 ماي 2024 [2] موقعا غريبا في نطاق الضوابط القانونية للتعامل مع مسار التحقيق. فالقانون يتحدث عن نشر وثائق أو نشر معطيات محيطة بالمحاكمات ولا يوجد ضمن النصوص القانونية ذات الصلة ما يمنع التداول بشان أية قضية من القضايا سواء المعنية بموضوعنا أو غيرها إلا في ما يخص القضايا ذات الطابع الشخصي مثل الثلب أو الطلاق أو الإجهاض.
والتداول لغة يفيد انتقال الشيء من جهة إلى جهة أخرى. تداولت الأيدي الشيء أخذته هذه مرة والأخرى مرة. ويقال تدول القوم الأمر وتَدَاوَلَ النَّاسُ آخِرَ الأَخْبَارِ: تَنَاقَلُوهَا وَتَبَادَلُوا فِيَها الرَّأْيَ. إذن فالتداول هو نقل الخبر وتبادل الرأي حوله فهو بهذا يتضمن جوهر العمل الصحفي من خلال وظيفتين أساسيتين من وظائفه أولا الإعلام باعتباره نقلا للخبر أو المعلومة وثانيا النقاش والحوار باعتبارهما مساهمة في شرح المسائل للمتلقي خاصة إذا كان الأمر يعني أمورا تقنية (مثل المسائل القانونية) تحتاج إلى الشرح للمتلقي العادي.
هكذا فان التداول سواء بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي يدخل ضمن العمل الصحفي الذي يخضع لضابط أصلي متضمن في الفصلين 61 و 62 من المرسوم 115 مما يجعل الهايكا هي المخول بمراقبة الأداء الإعلامي في صلة بأعمال التحقيق وترتيب الأثار القانونية عن كل انتهاك.
وبناء عليه من السهل أن نستنتج أن القرار لا يعني سرية التحقيق ولا تطبيق القوانين السارية المفعول إذ انه لم يرتبط بممارسة محددة أو تجاوز محدد يبرر قرار حاكم التحقيق ودائرة الاتهام.
ومن المهم التذكير في هذا السياق بان حاكم التحقيق اتخذ سابقا قرارات جزئية تتعلق بمنع تناول قضية بعينها في الإعلام مثل القرار الذي اتخذه قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس المتعهد بقضية مقتل الشاب آدم في مطعم ماديسون بالعاصمة إذ قرر منع بث ريبورتاجا حول القضية في برنامج «الحقائق الأربع» ليلة 22 نوفمبر 2019 على قناة الحوار التونسي.
وقد جاء قرار منع البث إثر طلب تقدم به أحد المحامين النائبين في القضية مستندا في طلبه على المبدأ القانوني المتعلق بسرية التحقيق في قضية يتعهد بها القضاء.
حين تشكك هيئة الدفاع أصلا في وجود قرار
بقطع النظر عما يلف قرار حاكم التحقيق من الغموض في صيغته الواردة في قرار حاكم التحقيق أو دائرة الاتهام والجهة التي أرسل إليها وهي الهايكا (لم تؤكد أية وسيلة إعلام تلقيها لهذا القرار ولم تنشر «الهايكا» أي بيان أو بلاغ في الموضوع). فهيئة الدفاع تنكر رؤيته عيانا. وبقطع النظر أيضا عن الجهة التي أعلمت به وهي القطب القضائي لمكافحة الإرهاب فان القرار يثير أسئلة متعددة:
هل أرسل القرار إلى «الهايكا» لتذكيرها بالمرسوم 115 وخاصة الفصلين 61 و 62 مما يجعله مجرد تذكير بقانون ساري المفعول وغير مرتبط بالضرورة بانتهاك حدث في المدة الأخيرة في صلة بقضية «التآمر على امن الدولة» ؟
وترى هيئة الدفاع في بيانها الصادر يوم 24 أفريل 2024 انه «من الغريب فعلا أن تتحدّث النّاطقة باسم النيابة العمومية» عن قرار وهميّ وغير موجود، فما تشير إليه معتبرة إيّاه « قرارا» هو مجرّد مراسلة موجّهة لرئيس الهيئة العليا المستقلّة للإتّصال السّمعيّ البصريّ تحمل عنوان «تذكير بمنع تداول حيثيّات ملفّ منشور لدى التّحقيق» وإعتبارا لأنّ المحامين وعموم المواطنين ليسوا من منظوري «الهايكا» فهم ليسوا معنيّين بهذا «التّذكير»، و هو ما ينطبق أيضا على وسائل الإعلام إعتبارا لأنّ الهايكا قد رفضت تبليغها بالتّذكير معتبرة إيّاه غير قانوني، بالإضافة إلى أنّ الجهة التي وُجّهت لها المراسلة إختفت من الوجود واقعيّا بعد رفض تعيين رئيس لها وقطع الرّواتب عن أعضائها.
وكتب سمير ديلو يوم 25 أفريل 2024 في نفس سياق الغموض الذي يلف قرار منع التداول في رده المنشور على صفحته على الاتهام الموجه إليه من قبل الوكالة العامة لمحكمة الاستئناف بتونس بارتكاب «جريمة مخالفة المراسلة» حال استدعائه من قبلها انه لا يعلم «بوجود قرار يمنع التّداول في القضيّة».
الصمت سجن في الهواء الطلق
أخيرا هل أن الغرض من قرار منع التداول في قضية «التآمر» هو حماية سرية التحقيق والمعطيات الشخصية ؟ من الصعب أن نقتنع أن القضاء يهمه ذلك كثيرا وسط هذه الفوضى العارمة التي تحدثها صفحات وأشخاص معروفون يدعون ولاءهم لرئيس الجمهورية احترفوا منذ مدة نشر وثائق التحقيق وهتك أعراض الناس ونشر معطياتهم من قضاة ومحامين وشخصيات عامة دون رادع وذلك رغم عشرات القضايا التي قدمت ضدهم.
إن ما يجعل القضية حية في النفوس والضمائر هو الحديث عنها والتداول بشأنها ونقل أخر أخبارها. أما الصمت فهو نوع من السجن الثاني أو السجن في الهواء الطلق الذي تمارسه السلطة على الموقوفين والمحامين وذويهم والراي العام. فهيئة الدفاع لا تواجه قضية يمكنها بصددها الدفاع عن موكليها والكشف عن كل خرق للإجراءات في أي طور من أطوار التحقيق وصولا الى المحكمة المختصة. إن اخطر ما يخفيه هذا القرار هو شبهة أن يكون قرارا سياسيا وضع في غلاف قانوني قضائي.
لقد شرعت السلطة بعد تخريب كل الأجسام الوسيطة من مجالس وهيئات وطنية وأحزاب في محاصرة الإعلام والتضييق علي عمله فهو المربع الأخير الذي بقي صامدا وكان لابد من تركيعه بواسطة المنع والملاحقات القضائية. وها هو المرسوم 54 صاحب باع وذراع في تحقيق هذا الهدف وسط الخوف العام الذي بدأ يسود البلاد والذي لا يكسره غير عدد قليل من المنظمات المهنية والحقوقية وعدد قليل من الصحافيين في ظل الرعب الكامن في الصدور والموروث عن زمن الاستبداد والذي تشتد آثاره البغيضة وتتوسع كالسرطان الزاحف يوما بعد يوم ليعيد البلاد إلى أزمان حالكة خلنا أن الثورة خلصتنا منها إلى الأبد… ولكن هيهات..
[1] لا احد في الواقع شاهد هذا القرار بل تكفلت النيابة العمومية بالإخبار عنه نيابة عن حاكم التحقيق.
[2] والصيغة الواردة في قرار دائرة الاتهام هي التالية «الإبقاء على قرار منع التداول الإعلامي في حيثيات قضية الحال الى حين إحالة ملف القضية الى المحكمة المختصة بالنظر في الأصل» وهي نفس الصيغة الواردة سواء في القرار الأصلي لحاكم التحقيق الذي أخبرت عنه النيابة العمومية أو في قرار ختم البحث.