نور الدين الغيلوفي
1. ضيّق الأعراب، مطبِّعَهم ومُمانعَهم، عليها برّا وبحرا وجوّا في تحالف مع الأعداء مكشوف. ولأجل الخلاص من مقاومتها منعوها من كلّ شيء وتركوا أطفالها ونساءها للموت قصفا وجوعا ومرضا وإهمالًا بعد أن هدم العدوّ الوحدات السكنية بها وفجّر المشافي وطارد الناجين في المدارس. أخذ العدوّ وجبات توحّشه من دماء الشهداء ولم يشبع فترك الجرحى ينزفون دماءهم ليتجاوز عدد الشهداء أعداد الجرحى.. والعرب ينظرون.. ويواصلون مرحهم المعتاد.
2. غزّة تركها أعراب الجوار للعدوّ يفعل بها ما يشاء لكي تتخلّص أنظمة العار العربي من الصداع الفلسطينيّ خلاصها النهائيَّ،
غزّة تركوها وحدها تقاسي أهوال الحرب المروّعة وتعاني الخذلان والحصار المركَّب فأُسريَ بها إلى ما وراء البحار.
الأرضُ بعوالمها صارت لغزّة بساطا يحملها عليه شباب كأنبل ما ولدت النساء وأجمل وأنقى.. قيّض لها المكرُ طلبة جامعات الدنيا ليجعلوا منها الاسم الأعلى تردّدا في الكون.
كانت الأشهر الستّة مقدّمة لازمة كتبتها غزة بدماءٍ وتركٍ وتخلٍّ وقهرٍ وعذابٍ، كانت لازمة لهذا الحراك المساند لغزة في محنتها المنخرط في معركتها بعد أن قال بعض طلبة أمريكا “غزّة تحرّرنا”.
التحق شباب جامعات العالم الحىّ بغزّة بعد أن ظنّ كثيرون أنّ ميزان القوّة كفيل بأن يحسم الأمر.. وظنّت دولة العدوّ ذلك حينما استثمرت حقّ الفيتو تدعمه بها حكومة بايدن لتقطع الطريق على مقاومة كان من المنطقيّ أن تمليَ، عند التفاوض، شروطَها، بعد أن منعت الجيش الذي لا يُقهَر من النصر إن لم نقل قهرته.
3. لمّا ضاقت فُرجت وجاء المدد من جامعات أمريكا.. أمريكا التي دفعت كلّ ما تستطيع من أسلحة وأموال وجنود وخطط وأمهلت جيش العدوّ الوقت الذي طلبه، وأكثر منه، ليحسم الحرب لصالحه ويسوّيَ غزّة بالتراب ويسحق كلّ نفَس مقاوم بها وليفرض بعد أفاعيله المروّعة شروطه المجحفة.. شروط المنتصر.. غير أنّ أداء المقاومة المذهل وثبات حاضنتها الشعبية الأسطوريّ سلباه النصر المطلق الذي منّى به نفسه وأجبرا العالم على أن يعيد النظر في الموضوع.. بعد ستة أشهر من هول الدمار.
4. لقد أدرك الشباب الجامعي في أمريكا وأوروبّا أنّ الإنسان بات مهدّدا بما يفعله جيش الكيان الإجراميّ الذي كشفت حربه على غزّة أنّه ليس عدوّا للفلسطينيين الذين يستولي على أرضهم ولا للعرب الذين يمسك بخناق دولهم ويسوق دولهم مثل قطيع فحسب.. لقد كشفت الحرب للعالم أنّ جيش العدوّ بما يأتيه من جرائمه المروّعة التي تشاهدها البشرية على الشاشات بات عدوّا للإنسانية جمعاء.. وبالتالي عدوّا للتاريخ باعتبار حربه التي يشنّها منذ أشهر على العقل المطلق وعلى الحرية.. وعلى قيم الخير والحق والجمال.. وعلى الروح.
5. العولمة لم تعد مقبولة في النسخة التي تروّج لها أمريكا في صيغتها الليبراليّة المتوحّشة.. ترى البشرية بشاعة تجلّيها في الصهيونيّة التي لم يكفها الاستيلاء على أرض الفلسطينيين بل احتكرت الدين واستأثرت بالله تستعملهما في خدمتها وتقصي عنهما كلّ من يرفض سياساتها وينكر حربها.
لقد صنعت غزّة بمقاومتها وثبات شعبها عولمة نقيضا نراها تدير عجلة التاريخ إلى جهة أخرى يكتشف فيها الإنسان ما كان من استغفاله بما فعلته النيو ليبرالية به. لذلك قال الطلبة إن غزة تحرّرنا. طلبة العالم الذين ينتفضون نصرة لغزة إنّما ينتفضون للإنسان فيهم. لقد أيقن هؤلاء أنّ أهل غزّة بما يبدون عليه هم أكبر من التعاطف وأجلّ من الشفقة، لقد أثبتوا للعالم، رغم التقتيل فيهم ورغم القسوة وأهوالها، بشريةً قوية ليست لسواهم في هذا العالم.
6. دفعت غزة ثمنا لا يمكن لدولة عظمى أن تقدر عليه، ولكنّها لم تُغلَب ولم يفقد شعبها الأمل في حياة يراها الناس تحت ركام المباني.. غزّة، بعد كلّ الذي جرى عليها من ظلم لا يحتمله شعب من شعوب الدنيا، ينتفض لها العالم في نسخة شبابية جديدة باتت ترى لغزة عليها فضلا في ولادة معنى كانت قتلته الحداثة في نسختها الليبرالية.
لقد أيقن الشباب في العالم الحر أنّ المعنى لا تصنعه القوة. المعنى تصنعه صورة لصبيّ يخرج من تحت الركام بين موت وحياة يرفع شارة النصر يقهر بها عدوّا مجرما ظنّ أنّ زراعة القتل كافية لتجعل له مجدا.
المجد للمقاومة…
المجد للإنسان.
النصر لغزّة.