علي الشابي
تاريخيا، ومنذ انفصال التعليم عن هيمنة الكنيسة في أوروبا (الغربية والشرقية)، ومنذ تعميم التعليم في الدولة الحسينية بتونس، كان للكيان الطلابي خصائص تجعل منه مجموعة ضغط مهمة، تؤثر في بعض الأحيان في تحديد مسارات دول وتوازنات سياسية محلية وإقليمية.
فكما خاضت حركة صوت الطالب الزيتوني تحركات مناهضة للاستعمار ومطالبة بإصلاح التعليم منذ بداية القرن الماضي (1911)، كانت منظمة “نجم الشمال” في فرنسا إطارا نشط فيه طلبة تونسيون في الأربعينات اصبحوا فيما بعد ساسةً لعقود في فترة الاستقلال، وقد انخرطت الحركات الطلابية اليسارية في انتفاضات نهاية الستينات في جل بلدان العالم “المتقدم” بما ألقى بظلاله على النخب المثقفة في البلاد العربية، كما تمثلت الحركات الطلابية القومية والبعثية في العالم العربي كتيار أو شبكة نقدٍ للأوضاع المتفاقمة واحتجاجات مهيكلة في مجتمعات هذه الدول. وكانت كذلك هذه الحركات الطلابية ذراعا من أذرع التحرر الوطني المسلّح زمن الاستعمار وأداةً تفرض على الحكّام بعض القرارات الهامة مثل أحداث “براغ”، و”حركة احتجاز الديبلوماسيين الأمريكيين في طهران إبان الثورة، و”ربيع بيكين” وفي بلدان أمريكا اللاتينية وغيرها من الأحداث العالقة في الذهن إلى يومنا هذا. ذلك أن هذه المرحلة العمرية عادةً ما تكون مفعمةً بإرادة الانخراط في القضايا المعتبرة عادلةً، وهي القلب النابض للامة…
وأعتقد أن الحركات الطلابية تستجيب إلى اغلب الشروط لتلعب دورا وازنا في المشهد السياسي والاجتماعي مثل
- نسبة التركيز العالية من الشباب،
- المنسوب العالي من الاستقلالية الفكرية،
- التأهل لقيادة البلاد،
- سرعة الإنجاز،
- الاستعداد لمجابهة المخاطر،
- القدرة على التنظم والمرونة في المناورة.
واعتقد كذلك أن السلطة السياسية في تونس استوعبت الدرس منذ نهاية الثمانينات ونزّلت آنذاك استراتيجياتها وفق محوريْن :
1. محور امني بما تضمّنه من تثبيت لمركز شرطة داخل كل حرم جامعي ونفي قسري للطلبة “المشاغبين” في أقصى صحراء البلاد في مُعتقل “رجيم معتوڤ”،
2. محور ثقافي، سواءً “بإصلاحات” متتالية يجمع بينها التسطيح في المناهج (يحتاج إلى تفصيل) أو الاستحواذ على الفضاء الجامعي الأصلي واستبداله بفضاءات ترفيهية لا تعكس بالضرورة خصوصيات الحياة الطلابية – استمرارًا وتوسعا لمنهج إعادة تشكيل الفضاء الثقافي السائد في البلاد (من تونس بلد الفرح الدائم، وبالأمن والأمان يحيا هنا الإنسان، وابتسم انك في تونس..) حيال ارتفاع منسوب البطالة والتفاوتات الاجتماعية البيّنة والهشاشة الاقتصادية من جهة، والتخفيف من طُرق التقييم ومحاولة غرس ثقافة التواكل والربح السهل والنجاح غير المستحق والواسطة والزبونية… فتصاعدت مظاهر الغش في الامتحانات (كلية الاقتصاد بتونس نهاية التسعينات)… إلى أن فقدت الحياة الجامعية ونواميسها الداخلية وجوهرها المعرفي المحض وهويتها ومقاييسها وتضاءل مستوى مخرجاتها…
وأعتقد أخيرا أن دور “الجسم الأستاذي” -إن صحت الترجمة-، في دفع الطلبة نحو اكتشاف الذات والتبحر في المعارف وبناء “الشخصية العلمية” المتوازنة، التي لا سلطان عليها سوى العلم، قد اضمحل كما أن مهام الطالب الاجتماعية والثقافية قد أضحت ضمن أطلال حقبةٍ قد لا تعود.
#تحيةالىطلبةجامعةكولومبيا.