أحمد الغيلوفي
مرّ العرب في تاريخهم المعاصر بخمس كوارث راجعت فيها النخب أفكارها بشكل جِدّي: حملة نابليون، وتقسيم الوطن العربي على القوى الاستعمارية ما بين الحربين، ثم كارثة النكبة، وهزيمة 67، وسقوط بغداد2003.
ولأننا نمر “بالنازلة” السادسة، علينا أن ننظر لأنفسنا بوصفنا نعاني من “حالة عبد الاله بلقزيز“.
تعني “دراسة حالة”، في العلوم الإنسانية والاجتماعية، نوع من المنهج لفهم ظاهرة أو خاصيات عامة مُتكررة انطلاقا من حالة فردية.
يُمثّل عبد الاله بلقزيز حالة مُتكررة في الفكر العربي الذي ينتسِبُ الي تيار النهضة العربية.
عبر علي اومليل في “الإصلاحية العربية” عن هذه الحالة باختصار ورشاقة: هناك شي عجيب لدى النخب العربية التي تصدت لمشكلة التخلف والاستعمار: يقول جميهم بانه لا يمكن مواجهة الغرب واللحاق به إلا بالإصلاحات والمؤسسات والمجالس النيابية وتقسيم السلط والانتخابات.. وينتهون جميعا -بشكل عجيب- الي أدب سلطاني يُبشّرُ بالمستبد العادل والمُنقذ.
كيف يُفسر علي اومليل هذه الظاهرة؟
بأمرين: أولا، كان هؤلاء موظفو دولة يعملون لدى سُلط سلطانية مستبدة، وثانيا كانوا يعيشون ضغط الأحداث وتهديد الأخر الغربي، فيبحثون عن حلول ” مُستعجلة” للنهوض بديلا عن “التنظيمات” والإصلاحات” التي لا تُؤتي نتائجها الا بعد تراكمات تاريخية طويلة. والحقيقة كان الأخر/ الغربي يدرك خطورة إرساء تقاليد ديمقراطية في المنطقة العربية، وقد عبر خير الدين عن ذلك في “أقوم المسالك”: “ومن غريب امر هؤلاء الفرنجة انهم ينصحوننا بعدم القيام بالإصلاحات في أقطارنا بينما قاموا بها هم ولولاها لما اصبحوا في قوة واستقرار”. ومع ذلك انتهى خير الدين سلطانيا.
عبد الاله بلقزيز كذلك: عندما نقرا ما كتبه قبل الثورات العربية فإننا نجد تأكيدا على المؤسسات والديمقراطية والتراكم التاريخي، ودحضا تاما لإمكانية النهوض اعتمادا على إرادة “سلطانية”. نجد ذلك في “الديمقراطية والمجتمع المدني” وفي “الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر”. أما في “نهاية الداعية” فنجد تقريعا للسلطة الفردية وتحميل كل كوارث العرب على عاتقها، وثلبا لمثقف السلطة الفردية أيضا.
في مقال “المثقفون والقومية العربية: فريضة المراجعة”، والذي كُتِب اشهر قليلة بعد سقوط بغداد، نجد هجوما عنيفا على الأنظمة القومية العربية: بسبب غياب الديمقراطية والمؤسسات انهار كل ما بناه عبد الناصر، ولنفس الأسباب انهارت الدولة العراقية التي ربطها صدام بشخصه وبالحزب، ولنفس الأسباب لم يقف المصريون ضد الانقلاب الذي قاده السادات، ولم يدافع العراقيون عن الدولة.
بعد تقريع شديد لتجربة عبد الناصر والبعث والقذافي، يقول: “والنتيجة؟ يُرْتَهَنُ مصير وطن بمشيئة فرد، وتُلغى قواعد السياسة، وتغيب المؤسسة. وحين يُغيبهُ الموت، أو يقع تغيير مسلّح، ينهار ميراثه الوطني، لعدم وجود مؤسسات تحمي ذلك الميراث بوصفه تراكما للوطن والدولة” (مجلة الآداب ص97، ديسمبر 2003). كلام جميل.
عندما حدث الانقلاب في تونس كتب عبد الاله بلقزيز مقالا بجريدة الخليج يُبرر فيه ويشرع فيه لما قام به قيس سعيد، معتبرا ما حدث “دولة تردع السلطة”.
في مقال أخر بنفس الجريدة (يبدو انه اصبح يعمل بالإمارات أو السعودية) يقول بان هناك عمليات نهوض لا تقوم بها ثورات وإنما “الدولة”، ويقدم لنا مثال ميجي في اليابان ومحمد علي في مصر. أين نحن من مقال مجلة الآداب؟
ولقد اتخذ القوميون في تونس من مقالات الرجل السلطانية إنجيلا لهم لتبرير موقفهم مما حدث، ولست ادري الآن ماذا يقول الشيخ وماذا يقول المريد.
نقول فقط أن صلاح الدين الذي حرر القدس خَلَفَهُ ابن أخيه (العادل) الذي اهدى القدس للفرنجة مقابل حمايته من الداخل المصري (كانت مصر شيعية بينما هو سني).