نور الدين الغيلوفي
بمناسبة صدور الحكم في قضية مقتله
شكري بلعيد
1. لأنّك صرت الآن هناك في العالم الآخر بين يدي ربّك، ولأنّ ربّك هو ربّي وربّ الناس فإنّي أسمح لنفسي بأن أخاطبك لأمرين اثنين:
إن كنت في نخبة الشهداء فالشهداء، عند ربّهم، أحياء.. والحيّ يقرأ الرسائل تأتيه من الأحياء على الضفّة الأخرى.
وإن كنت في عداد عوامّ الأموات، فالموت، في فهمي، نقلة من عالم إلى عالم مفارق. وكونك في عالمك الذي صرت إليه لا يمنعني من مخاطبتك من عالمي الذي أنتمي إليه.
2. يا رفيق،
أعترف لك بأنّني لم أكن أعرفك من قبل، أنا الذي يدّعي معرفة بفرقاء الأفكار في هذه البلاد من زمن بعيد، لم أعرفك إلّا بعد هروب بن علي من البلاد كما لو أنّك كنت رهن الاعتقال ولم يفرج عنك إلّا بعد هروب سجّانك. بينما عرفت رفيقك حمّة الهمّامي مناضلا ماركسيًّا لينينيّا ستالينيًّا ماويًّا لا ينكر عليه أحد نضاله.. لقد سُجن حمّة على الحقيقة فعرفنا بمرّات سجنه. ولمّا هرب بن علي تركه في أروقة وزارة داخليته مع رفيق آخر له. ولم يتركْكَ معه. وقد نشر من الكتب والمقالات والأشعار ما قرأتُ.. أمّا أنت فما نشرتَ وما قرأتُ لك.
وسمعتُ بأسماء محامين، وأنت المحامي، وعرفت وجوههم وهم يقاومون الدكتاتور ويتحدّونه، ولكنّ شرف معرفتي بصوتك وصورتك لم يتحقّق إلّا حين رأيتك على بعض الشاشات تخطب ملبوسا بروح ستالين. سألتُ، وقتها :
– من هذا؟
فقيل لي:
– يدعى شكري بلعيد، محامٍ من فصيلة الوطد.
– أيّ الوطد؟ فهم كُثر !
– جاء يوحّد فرقاء الوطد.
3. ثمّ علا صوتك وصرت على الشاشات نجما فسمعتك وعرفت ملامحك. أعترف بأنّني لم أرَ فيك ما يَلفت. وعلوُّ صوتك لم يحمل لي فكرا نوعيّا ولا فهما استثنائيا. ولا تعبيرا غير مسبوق.. وقد فهمنا بعد اغتيالك أنّ إظهارك كان مجرّد استعراض لك كمن يعدّ ذبيحة ليوم مشهود.. ولأنّ الأضواء تُعشي فقد أغفلتك عمّا كانت تعدّه لك الجهة التي جعلتك لها هدفا. كنت شخصا عاديًّا لا يستطيع أن يضيف جديدا وحتّى حين أراد رفاقك أن ينتخبوا من كلامك ما به يخلّدونك ويجعلونك في جوار ابن خَلدون لم يجدوا لك غير عبارة “ناقفو لتونس”. ولركاكة العبارة أشكّ في حبّ رفاقك لك بنسبتها إليك. لو كانوا يحبّونك لذكروا لك عبارة أعمق… أو لم يجدوا؟
4. وإنّي لأذكر صورتك يوم حضورك إلى المجلس الوطنيّ التأسيسيّ الذي بدأ أشغاله إثر انتخابات أكتوبر 2011.. فهمت من مشهدك ذاك ميلك إلى المخالفة والتظاهر بها.. صورتك، واقفًا بين الفرقاء، بدت لي خالية من كلّ ذكاء. رأيت فيك، فقط، شخصا جاء يتظاهر بخلفيته الإيديولوجيّة ليعرفه الناس بها، وربما ليمتدحوه بشجاعته فيها. لم أر في ما أبديتَ أيّ دليل على النضج.. ولا حتّى على الفهم.
5. ولمّا علا صوتك في زمن حكم الترويكا وصرت زعيم طائفتك فجعونا فيك.
أذكر يوم مقتلك.. شاهدت اليوم على الشاشات حاميًا.. توجّستُ، يومها، خيفةً. قلت ذهب الرجل كبشَ فداء وقد أريد اغتيالُ الثورة باغتياله.. ورأيت أنّ الجهة التي دبّرت الاغتيال خبيثة جدّا. إنّما قتلتك لتصيب بك هدفا كبيرا.
6. لم يكن قتلك لذاتك، يا رفيق، لقد كنت مجرّد مواطن تونسيّ عاديّ لا كفاءة لديه تدعو خصما له إلى الخلاص منه من ضيقٍ به. ولا أزال أراك أقلّ من أن يضيق بك واسعٌ. ولقد حقّق رفاقك بموتك ما لم يكن بوسعك أن تحقّقه حيًّا. ولعلّهم، إن لم يقتلوك، استغلّوا موتك ليتّخذوك لهم رمزا وقد عجزتَ في الحياة عن أن تكسب ما به تكون رمزا. وقد رفعوا صورتك وجعلوا لهم من اسمك قوائم يستعملونها لرفس كلّ شيء.
وقد تأكّد لي الأمر، منذ اليوم الأوّل، حين ظهر، بمجرّد مقتلك شعار “يا غنّوشي يا سفّاح يا قتّال لرواح”. لقد رأيت أنّه شعار مُعَدٌّ سلفا ولا يمكن أن يكون وليدَ لحظته. والجهة التي خطّطت لاغتيالك هي التي كتبت الشعار، ربّما قبل تنفيذ جريمتها. وممّا عزّز الشكوك أنّ أوّل رافعة له كانت شقيقة شخص اسمه على قائمة الإرهابيين في تونس.. وأنا رجل لا أرى في حدث من الحوادث صدفةً.
وصحبت حادثةَ اغتيالك أمورٌ كثيرةٌ تقول إنّك كنت مجرّد عصفور اختارك صيّاد محترف لتكون سببا إلى اغتيال الثورة ووأد التجربة ودمغ الشعب بصخرة اليأس. لم تكن رأسك هي المطلوبة، فأنت مواطن تونسي عاديّ لا يختلف عن عوامّ الناس في شيء.
7. رفاقك، يا رفيق، تخلّوا عنك منذ اللحظة الأولى التي حوّلوك فيها إلى قيمة استعماليّة.. قد يكون بينهم من تألّم لموتك، ولكنّ منهم من جعل من قتلك قميص عثمان يستعمله في التنكيل بمن رأى فيهم خصومه.. وهو يكره أن يراهم خارج ما كان أعدّه لهم من مصير لا يرى لهم سواه.
رفاقك اتخذوك بقرة مقدّسة يطيلون قوائمها، بعد قتلها، ليصيبوا بها جهة يعلمونها.. لا يعيشون على غير إنتاج الأذى يصيبونها به.
واستعملوك زيتا ينزّ ولا ينضب يصبّونه صبًّا على نار حقدهم المجوسية المقدّسة لتبقى على اشتعال يعيشون عليه مخافة أن يبتلعهم الظلام إذا انطفأتَ.
يا رفيق،
لقد صنعوا منك أنشودة يرتلونها يلهجون بحروف اسمك كما لو أنّك “شكري” الوحيد في أرض البشر.
8. يا رفيق.
كنت سمعتك تتحدّث بتمجيد الثورة، غير أنّ رفاقك الأحياء قد جعلوا منك معولهم هدموا به الثورة وأودعوا مخالفيهم السجون.
أمّا راشد الغنوشي، يا رفيق، فقد اتهموه فيك وألبسوه جريمة قتلك، وحين لم يجدوا لهم من الحجج ما يثبت حكمهم عليه بحثوا في أقواله فوجدوا عبارة له قالها في تأبين أحد رفاقه جاء بها من القرآن فجاؤوا به بسببها إلى السجن وبحثوا له في أفعاله عمّا يدينه ولمّا لم يجدوا قدّروا واحتملوا وسجنوه في ما يحتملون. أقوال الغنوشي وأعماله لا تساوي، إذا جُمعت، جنحة يستحقّ عليها السجن. ولكنّ رفاقك قرّروا أن يودعوه السجن لأنّهم قرّروا أنّه وراء مقتلك.. ولا يبدو أنّهم يحتاجون إلى حجّة لإثبات تهمته بقتلك. وليكون اعتقاله أشدّ أذى له ولأهله ولأنصار حزبه فقد داهموا بيته ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان مع موعد الإفطار وانتزعوه من بين أهله مثل مجرم خطير. ليتخلصوا منه وهو الشيخ الطاعن.. سجنوه وسجنوا معه يده المرتعشة حتّى لا يجد من يعينه على مسح وجهه متى أتمّ وضوءه حين يقوم إلى صلاته
ليدعو لك بالرحمة
ولرفاقك بالهداية
وللوطن بالسلامة.
9. مضى على الرجل عام من عمره الباقي في انتظار أن يجدوا له بمقتلك صلة. غير أنّ الحكم في قضيتك قد صدر وبرّأ القضاء الغنّوشي وبرّأ حركته منك ومن دمك..
الآن، انقشع بعض الغمام الذي عاش عليه رفاقك.. كانوا يتسلّلون في غبش الوطن ليرتبوا مكائدهم وقد أودعوا الغنوشي سجنهم وها قد حكم القضاء بغير ما أرادوا.
أكلوا لحم الغنوشي باسمك،
وتفكّهوا بسمعة النهضة باسمك،
وجعلوا من يوم مقتلك كربلاء لهم ليجرّوا على الوطن بلاءً.. ويجنيَ الويلات منهم.
شكري بلعيد
10. يا رفيق،
بعد عشر سنين من مقتلك تمكّن رفاقك من الإجهاز على الثورة التي كنت تمجّدها وقد بنوا كلّ سرديتهم على وهم جعلوا له البلاد سوقا لترويجه، فاغتالوا الآمال مجتمعة.. وخنقوا الأنفاس.
الآن تنطفئ نار رفاقك يا رفيق،
وتنفد أبعاض بقرتهم المقدّسة،
وتأخذ الريح منهم قميص عثمان،
وتطفئ العدالة نيرانهم التي أضرموها فتدفّؤوا عليها وأكلوا من نضيجها.
الآن، سل رفاقك يا رفيق،
هل ارتحتم؟