استراتيجية أمريكا ما الذي يحركها في الإقليم ؟
أبو يعرب المرزوقي
لو كانت الشعوب المحيطة بفلسطين قد تحركت فعلا لتغيرت مواقف أمريكا والغرب ولأوقفوا التوحش الإسرائيلي. فما يخيفهم هو ما يريدون المحافظة عليه للسيطرة على الإقليم:
وعدم فهم النخب العربية هذه الحقيقة هي التي ستجعل المستفيد مما حققه الطوفان هو من سيرجع إليه خراج إنجازاته أي إيران التي تناوش بعملائها حتى يقال في النهاية إنها هي التي ساعدت المقاومة.
وذلك من علامات حمق قيادات الأنظمة العربية التي لم تفهم أن الحماية التي يؤسسون عليها بقاءهم على كراسيهم لن تحميهم ما داموا فعلوا كل ما يستطيعون لحماية إسرائيل وفهموا أن المعادلة تغيرت جوهريا.
فالغرب كله ومعه أمريكا التي هي الغرب الأقصى يخافون من تطور الأحداث إلى مرحلة تسقط عملاءهم الذين نصبوهم على الشعوب. ما يخشونه مضاعف وأعتقد أن منعه بات مستحيلا طال الزمان أو قصر:
- عودة روح المقاومة للشعوب وهي مقاومة تواصلت قرونا عديدة حالت دون نجاخ حروب الصليب والاسترداد والاستعمار والتي ختموها بحل تفتيت الجغرافيا الإسلامية: سايكس بيكو والإطاحة برمزها أي الخلافة.
- استئناف ما شرعت فيه الأمة وخاصة الإقليم لاستعادة دور المواطن في تحقيق شروط حرية إرادته ورجاحة حكمته في سياسة شأنه تربية وحكما بحيث يصبح سيد نفسه في وطن سيد.
خوف أمريكا والغرب ليس على إسرائيل لانهم جهزوها بما يكفيها لحماية نفسها أعني الردع المطلق أو السلاح النووي ومن ثم فهي ليست في خطر مثل الأنظمة التي يعتمدون عليها للإبقاء على التفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي الضامنين لمنع القوة التي تتغلب على هذا الردع:
ما يخشونه هو اجتماع ثورة تحرير الجغرافيا من التفتيت وثورة تحرير التاريخ من التشتيت فيصبح المواطن سيدا في أرضه بمقتضى تاريخه والوطن حرا لأن المواطن إذا تحرر لا يمكن أن يقبل أن يعيش في محمية بدلا من دولة ذات سيادة.
فالغرب افشل سيادة الأوطان بسايكس بيكو وأفشل سيادة المواطنين بخيانة عملائهم الذين نصبوهم على محميات سايكس بيكو فجمعوا بين تفتيت الجغرافيا الواحدة وتشتيت التاريخ الواحد.
لكنهم اليوم بعد مائة سنة من توهمهم النجاح في تفتيت الجغرافيا وتشتيت التاريخ ظلت اللحمة العميقة التي يمثلها الإسلام العائق الذي لم يستطيعوا الانتصار عليه رغم كل محاولات تشويهه.
لذلك فهم قد بدأوا يشعرون بخطر الاستئناف الإسلامي. فشل سايكس بيكو والعلمنة أي تفتيت الجغرافيا فشل تشتيت التاريخ الواحد واجتماعهما يعني تحقق شروط الاستئناف الذي لم يعد لي فيه ريب.
لذلك فإن ما يحاوله الغرب للسيطرة على جماع إسرائيل علته ليست القيم الإنسانية أو حب العدل وإنصاف الفلسطينيين وحقوق الإنسان علته السعي لمنع التحرك الشامل في الإقليم.
ففرض حل الدولتين بإضافة محمية عربية عدد 23 للموجود منها حاليا لجامعة المحميات العربية تسكين للحيلولة دون هذا التحرك الشامل لئلا تنهي مشروع سايكس بيكو في مستوييه الجغرافي والتاريخي.
ما يريد الغرب منعه هو عودة القضية إلى ما قبل التقسيم وقبل تخلي الأنظمة على الجمع بين التحريرين بالسيطرة على تحرك الشعوب والإيهام بأنهم يستعدون للحرب مع إسرائيل وهم في الحقيقة كانوا يسعون لتثبيت أنظمتهم التي هي اخطر من إسرائيل على الأمة.
وبهذا المعنى ففي الحالتين إسرائيل انتهت لأن ما وصلت إليه المعركة في حدودها الحالية تجعل العودة إلى حل الدولتين مستحيلا إسرائيليا حتى لو قبل به العرب وأرادوا فرضه على الفلسطينيين بالتجويع والترويع.
ولم يبق إلا حلان لا ثلاث لهما وكلاهما يعني نهاية إسرائيل ومعها الخطر الثاني الذي يتمعش من التغطية على مشروعه بكذبة مقاومتها في تنافسه معها على تقاسم أرض العرب في الإقليم: ايران.
وفشل إسرائيل يعني فشل إيران سواء حصلت الدولة الواحدة لقومين أو بقيت الحرب سجالا حتى تنهار إسرائيل وهي قد انهارت لأن جيشها اليوم تبينت هشاشته والغرب وأمريكا لا يمكن أن يحمياها لأن ذلك يعني خشارة كل الإقليم بعد أن يشعر صفا العرب في المحميات بفشل ذراعي الحماية:
فلا من يحتمي بإسرائيل والغرب يستطيع الاطمئنان على حمايته من إيران والشرق ولا من يحتمي بإيران والشرق يستطيع الاطمئنان على حمايته من إسرائيل والغرب.
ذلك أن عودة روح المقاومة التي ألغت حدود سايكس بيكوا الجغرافية علتها صمود اللحمة التي فشلت المحميات في القضاء عليها أي اللحمة التاريخية: وهذه هي التي ستفرض حل الدولة الواحدة في فلسطين بمجرد تحرك الشعوب المحيطة بإسرائيل الحالية.
الغرب والشرق كلاهما لا يمكن أن يقبل بالثورتين في الإقليم بسبب ما فيه من شروط الثروة والحركة في العالم أي من شروط قوتهما طاقة وممرات وكل فوضى فيه تعني فوضى في العالم كله وأزمة عالمية لا يمكن السيطرة عليها.
تلك هي أهمية ما حققه أبطال الطوفان: فهم قد بينوا أن قلة مؤمنة يمكن أن تغير وجهة التاريخ ليس بذاتها بل بما تحييه في سر قوة الأمة الروحية والمادية فيجعلها -رغم الضعف الفعلي- تمثل بالقوة المحرك الفعلي لتاريخ العالم المقبل.
اليوم وبخلاف ما يتوهم الكثير أنا واثق من أن إسرائيل تتعنتر وهي لا تستطيع مواصلة الحرب أكثر مما فعلت إلى حد الآن دون نتيجة:
- أولا. لأنها هزمت عسكريا.
- وثانيا. لأن كل سردياتها سقطت.
- وثالثا. لان لعبة إيران إسرائيل ستقسط في آن وعلامتها خزعبلات دجال الضاحية. وعندي يقين بأن تصفية قيادات حماس في لبنان ثمرة لهذه اللعبة تماما كما يحصل للعبة إسرائيل وروسيا في سوريا لتصفية بعض قيادات إيران فيها. ذلك أن اللعبة بينهما محكومة بلعبة اكبر هي لعبة روسيا وأمريكا في علاقتهما بتعطيل الإستئناف لأنهما متفقان على خطره عليهما: فهما يتقاسمان الإقليم تقاسم ذراعيهما إسرائيل وايران.
- ورابعا. لأن الغرب يعلم اكثر مني ما وصفت هنا فلا أحد منهم يجهل أن اجتماع روح تحرير الأوطان وتوحيد الأمة وروح تحرر المواطن وإحياء الإرادة الحرة والحكمة الراجحة شرطان ضروريان وكافيان وهما جوهر ما يجري حاليا.
- وأخيرا لأن الغرب والشرق كلاهما مجمعان على منع تعفن الوضعية الى الحد الذي قد يسرع الاستئناف وهو ما يخشيانه: لذلك فهم لم يبق لهم إلا السعي للحد منه وتبطئته قدر المستطاع.
لكن محاولة تأخير الاستئناف لا يمكن أن تنجح وذلك بسبب مكر خير الماكرين: فما تقوم به إسرائيل حاليا هو الانتحار الحتمي وانتحارها يعني انتحار استراتيجية إيران وانهيار انقسام العرب إلى صف عملاء إسرائيل والغرب وصف عملاء إيران والشرق.
وهو ما يعني بداية الاستئناف المحقق لوحدة الجغرافيا ونهاية سايكس بيكو ووحدة التاريخ نهاية السعاة إليه بالعودة إلى إمبراطورية كسرى وإمبراطورية داود لتعود إمبراطورية الإسلام أحب من أحب كره من كره.
وختاما فإني قد أفهم حيرة المسلمين بين القطبين: فالصين حضارة عائدة وأمريكا غاية حضارة الغرب. والمفروض أن تكون حضارة الإسلام الوسط بينهما أما أن يصبح المسلمون لعبة بين قزمين إسرائيل وإيران ذيلين وأداتين للقطبين فهو من مهازل حمق قيادات المسلمين عامة والعرب خاصة.
تلك هي علة ما توقعته منذ أن كتبت الاجتماع النظري الخلدوني منذ 1976 مشروعا لإعداد شهادة التعمق في البحث وتخليت عنه بسبب خلاف مع المرحوم عبد الوهاب بوحديبة وأنجزته كاملا لاحقا فأكملته بالعربية -لان المشروع كان بالفرنسية- لأتفرغ لأرسطو ومنزلة الرياضيات في علومه.
ولم أنشره بنصه الفرنسي سنة 1983 في مجلة الأستاذ التميمي ث نشرته بعد ذلك معربا بعد أن أضفت إليه ما توقعته من قرب الاستئناف أي عودة الحضارة الإسلامية كما توقعت عودة حضارة الشرق الأقصى والتقاطب بين الغرب الأقصى والشرق الأقصى.