نور الدين الغيلوفي
1. صديقي الناصر الذي نجح سنة 1984 في البكالوريا وسافر من سيدي بوزيد إلى العاصمة لدراسة الفلسفة بكلية الآداب بمنوبة محمّلًا بجدل هيجل وماديّة ماركس ومنطق أرسطو وجمهورية أفلاطون، سألته، يوما، زميلة له:
– يا ناصر، قل لي، ياخي أنتوما تسكنو في ديار كيفنا؟
فأجابها الناصر:
– لا بنيّتْ عمّي حنا هايمين في الصحراء مع الجمال والأغنام نسرحو بيهم ساعات، وساعات هم اللي يسرحو بينا.. ووين يظلنا الليل نباتو مع بعضنا في مراح واحد.. وحتى الفلسفة قريتها وأنا سارح بالبهيمة والأنجليزية تعلّمتها بينما كنت نحلب في المِعزة.
2. الدولة المسمّاة وطنية ليست أكثر من نطفة استعماريّة، يشهد على ذلك خطابها الاستشراقي الإقصائي الذي يقيم حاجزا بين الدارس وموضوع دراسته.. لا يعنيها من السكّان سوى ما يصلح لتدجينهم للسيطرة عليهم. نحن في الجنوب، مثلا، خارج تغطية الدولة الذهنيّة.. ولسنا أكثر من موضوع للوصف، فإذا زارتنا الدولة بهيلمانها جاءتنا بأجهزة بثت لنا صورتين بينهما حاجز: صورة للنساء داخل خيمة يطلّ عليها فانوس كهربائي جيء به ليسلّط على يوسف الخارج عليهنّ وقد نسي المخرج أن يعطيَ كلَّ واحدة منهنّ سكّينا ليقطّعن أيديَهنّ. وصورة أخرى للرجال وعلى وجوهم علامات الدهشة وملامح الفرح بالقادم إليهم من وراء أفق انتظارهم.. كأنّه كائن من عند السماء نزل عليهم فجأةً.
3. تنسى دولتنا المقدَّسة أنّها تتغذّى من أسمائنا تتغطّى بها من عراء وتأكل منها من جوع.. تنسى أنّها إذا تحدّثت عن تحرير المرأة ذكرت الطاهر الحدّاد وإذا فاخرت بالعمل النقابيّ لجأت إلى محمّد علي الحامّي وإذا أرادت الحياة ردّدت أبا القاسم الشابيّ وإذا تذكّرت معارك التحرير لهجت باسم محمّد الدغباجي. وإذا تحدّثت عن البرلمان استحضرت الجلّولي فارس. وإذا هاجت عليها العروبة لهجت بصالح بن يوسف.
4. ولكنّ دولتنا تنكر أن يكون رئيسها الدكتور الحقوقيّ المثقّف المنصف المرزوقي القادم من دوز.. ستشغل نفسها بنسفه من أصوله وتغري به غلمانها ليكذبوا عليه.. يرسمون له صورة كاريكاتورية يتداولها إعلامها تستعملها في التنكيل به. وتنكر على المهندس علي العريّض القادم من مدنين أن يكون رئيس حكومتها.. ستطلق عليه أبشع النعوت وتتهمه بأشنع التهم. وستنقم على الحبيب خضر وتحاربه في صفة المقرّر العام للدستور قبل أن تلقيَ بالدستور كلّه في سلّة المهملات لتكتب لها دستورا جديدا لا جنوب فيه.. ثمّ تلقي بالعريّض في السجن وتحكم على المرزوقي به.. عن بعد.
5. ترفض دولتنا الموقّرة جميع هؤلاء الذين لا يليقون بها وتقبل بأيّ كان.. ترفع شأن من يصعد إلى قمّة هرمها، ما لم يكن بلون الجنوب المنسيّ قصدًا، ولو كان من عوامّ الناس لم يسمع به، قبلُ، من الناس أحد ولا شهد له بخصلة شاهدٌ في السلب ولا في الإيجاب، غير أنّه بملامح تشبهها. حتّى إذا عنّ لهذا الطارئ أن يسافر إلى جنوبنا واستقبله أهلنا بكرمهم المعتاد أخرج من جرابه لهم اعترافا بهم قال لهم فيه أنتم جزء من الدولة التونسيّة، فلتفرحوا ولا تُفرِطوا.. فنزل باعترافه عليهم بردُ اليقين.. في انتظار زيارة فجئية أخرى لصورة أخرى وتكرار للاعتراف.. في مناسبة أخرى لحاجة في نفس الزائر يتوسّلها.
6. تذكّرني صورة الجنوب النمطيّة في عين الدولة بصورة العربيّ في الخطاب الاستشراقي.. هي صورة نمطيّة تراها في النصوص المكتوبة وفي الأعمال الوثائقية والدرامية؛ الرجل على رأسه عقال بقربه ناقة يركبها أو يحلبها أو يمسك بخطامها، والمرأة أشبه بخيمة لا ملامح لها. العربيّ ناقة وخيمة وتيه في صحراء ممتدّة لا وجهة فيها ولا مقصد لقاصد.
الدولة الوطنية ورثت الاستعمار فينا وكانت له وفيّة لا ترانا إلّا بعينه المتعالية التي تمنّ علينا بالاعتراف بأنّنا نكاد نشبه البشر.. ويمكن أن نكون جزءا منها..
وننتمي.. إليها.. أحيانا..
كلّما كانت في حاجة إلينا.
وتنسى دولتنا أنّها، لولا نحن،
ما كانت.
أيّتها الدولة،
ما أنت؟