تحولات “الإسلام السياسي” في تونس من خلال وثائق تقييمية

سامي براهم 

تهدف هذه الورقة إلى دراسة المراحل التي مرَّ بها التيار الإسلامي في تونس من خلال وثائق تقييمية لها صلة بمسيرته، والإجابة على جملة من الأسئلة والفرضيات التي تتعلق بتشخيص تجربته بعد الثورة في خضم الانتقال الديمقراطي وتجربة الحكم، واستشراف مستقبله بعد “الانقلاب الدستوري” الذي نفذه رئيس السلطة التنفيذية، قيس سعيد.

مقدمة

يندرج تيار الإسلام السياسي عمومًا ضمن الحركات السياسية “الشمولية” التي تصدر عن أيديولوجيات تقوم على سرديات كبرى سواء كانت مرجعيتها دينية أو علمانية، وعلى رؤية تبشيرية تتبنى التغيير الجذري الشامل للواقع المتردي بما يشبه الانبعاث الجديد الذي يقطع بشكل كلي مع الواقع المراد تغييره. تهدف هذه الورقة إلى دراسة المراحل التي مر بها التيار الإسلامي في تونس من السرية إلى العلنية واكتساء الطابع الاحتجاجي قبل الثورة، والجواب على جملة من الأسئلة والفرضيات التي تتعلق بتشخيص تجربته بعد الثورة في خضم الانتقال الديمقراطي وتجربة الحكم، واستشراف مستقبله بعد “الانقلاب الدستوري” الذي نفذه رئيس السلطة التنفيذية، قيس سعيد، بتفعيل تأويل خاص للفصل 80 من دستور 2014، المتعلق بالإجراءات الاستثنائية.

المؤتمر العاشر لحركة النهضة سنة 2016

ولتحقيق هذه الغاية استقرأت الورقة أربع وثائق تتصل بحركة النهضة وحراكها السياسي: اللائحة التقييمية للمؤتمر العاشر 2016 لحركة النهضة، عريضة المائة قيادي نهضوي الموجهة لرئيس الحركة راشد الغنوشي، الرد المنسوب لرئيس الحركة على العريضة، نص استقالة عدد من قيادات النهضة. تشخص هذه الوثائق وضع الحركة الأم للتيار الإسلامي التونسي، والتي صيغت بعقل سياسي جماعي، في إطار حوار شارك فيه منظرو هذا التيار وأفضى إلى صياغة هذه الوثائق التي يمكن اعتمادها مدخلًا للتشخيص والفهم والاستشراف.

مكونات الإسلام السياسي التونسي

إذا اعتبرنا السياسة تدبيرًا للشأن العام في مختلف أبعاده المدنية “إدارة المدينة”، فإن دراسة الإسلام انطلاقًا من نصوصه المؤسِّسة، قرآنًا وسنَّة، تُظهر صعوبة الفصل بين الديني والدنيوي بما يجعل الحديث عن إسلام خال من السياسة بالإطلاق اجتزاءً واختزالًا للإسلام في البعد الروحي والتربوي. إلا أن المقصود من هذا الاصطلاح المستعمل، “الإسلام السياسي”، سواء في الإعلام أو الدراسات الأكاديمية، هو التيار الذي يؤمن بمرجعية الإسلام في إدارة الشأن العام ويوظف فهمه للدين لإعادة التمكين للإسلام أساسًا لسياسة الدولة والمجتمع وإصلاحهما، في سياق علماني ذهب أشواطًا وبتفاوت في الفصل بين إدارة الشأن العام والمرجع الديني. وقد اختار بعض الباحثين عبارة الإسلام الحركي أو التدين الحركي عوضًا عن الإسلام السياسي.

ويبدو أن التمييز بين إسلام سياسي وإسلام غير سياسي ناشئ عن وجود تيارات داخل الساحة الإسلامية، اختارت أن تقصر نشاطها على جانب من مكونات الإسلام، مثل الجانب الروحي لدى الصوفية، أو الجانب الدعوي لدى جماعة الدعوة والتبليغ، أو الجانب العلمي الفقهي لدى التيار السلفي العلمي، أو الجانب الفكري والثقافي لدى اليسار الإسلامي. لكن ذلك لم يكن نتاج تصور عقدي أو معرفي قائم على اعتبار أن الإسلام في جوهره دين روحاني منفصل عن حياة الناس وإدارة شؤونهم، بل هو مجرد تخصص أو تحديد أولويات ضمن وحدة التصور الإسلامي وشمولية الإسلام وإن دعا بعضهم لنبذ العمل السياسي والانشغال بالبعد التربوي أو الروحي أو العلمي أو الإيمان بأولوية الثقافي على السياسي.

لقد اعتبر عدد من الدراسات والتقارير هذا التوجه الذي اتخذ مسافة من الشأن السياسي العام، معبِّرًا عن “الإسلام الحقيقي”، بل راهن عدد من المنظمات الدولية والأنظمة السياسية على دعمه باعتباره بديلًا عن “الإسلام السياسي”، المتمثل في الحركات الإسلامية التي اتخذت من الإسلام مرجعًا للمعارضة السياسية الاحتجاجية، التي تبشر بعودة “حكم الإسلام” ودولته سبيلًا لتجاوز أزمة الدولة الحديثة.

ولعل أكثر التعريفات الموضوعية والإجرائية لمفهوم الإسلام السياسي ما عبَّر عنه أستاذ علم الاجتماع التونسي، عبد الباقي الهرماسي، بـ”الإسلام الاحتجاجي”، الذي يقصد به الحركة الاحتجاجية التي تتخذ من الهوية عنوانًا احتجاجيًّا. وهي عند تأسيسها حركة ما قبل سياسية أو ما قبل حزبية، لا تقوم على برامج ورؤى للحكم وإصلاح الواقع المتردي، بل هي واقعة احتجاجية بمضمون أخلاقي سياسي تنشط في دائرة تطوير مناخ الحريات والدفاع عن الهوية دون مضمون سياسي تفصيلي متكامل، ولا برنامج للحكم. وهو نفس المعنى الوارد في اللائحة التقييمية للمؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة 2016؛ حيث أشارت في توصيف نشأتها السياسية إلى “اعتماد السياسة كآلية احتجاج لا كآلية لحل المشكلات”.

ولتشخيص الحالة الراهنة للإسلام السياسي في تونس واستشراف مستقبله، تراجع الورقة أهم مكوناته، وتركز على التيار الغالب والأساسي الذي كان له حضور وتأثير بارز في مجريات الأحداث قبل الثورة وبعدها، أي حركة النهضة. ويمكن تقسيم مكونات هذا التيار إلى مكونين:

المكون الأول عنفي: ممثلًا في التيار السلفي الجهادي بمختلف تعبيراته وروافده، خاصة تنظيم “أنصار الشريعة” الذي كان له دور بارز في أحداث ما بعد الثورة. فقد مكنته مناخات الثورة من جملة من المكاسب من قبيل إطلاق سراح مساجين قانون الإرهاب الذين شكلوا نواته الأساسية، كما وفرت له فرصة الدعوة لأفكاره من خلال منابر “الجمعة” التي “استولى” عليها، والخيمات الدعوية في الفضاءات العامة، والقيام بالعمل الخيري على امتداد البلاد، واستقطاب الشباب لمشروعه الذي لم يسفر عن وجهه في البداية. فقيادات التنظيم ودعاته رفعوا شعار “تونس أرض دعوة لا أرض جهاد”، ولكن لم يطل أمد “تونس أرض دعوة” زمنًا طويلًا؛ إذ سرعان ما تحولت تونس إلى أرض جهاد دشنه اغتيال شكري بلعيد، قيادي أحد الفصائل اليسارية التونسية، ومحمد البراهمي، قيادي فصيل عروبي تونسي، تلتهما سلسلة من الأعمال الإرهابية التي استهدفت الأمنيين والعسكريين والمدنيين، بشكل متزامن مع مبايعة “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش). وتحولت بهذا وجهة أعضاء التنظيم إلى جبهات القتال لإسناد “دولة الخلافة” في سفر طوعي أو تسفير منظم أشبه بالهجرة الجماعية، إلى مناطق سيطرة “داعش” خاصة في سوريا والعراق. وبقيت منهم فلول بالجبال لاسيما جبل الشعانبي للقيام بأعمال “إرهابية” خاطفة، كان لها دور بارز في التشويش على مسار الانتقال الديمقراطي.

المكون الثاني سياسي سلمي: ينسحب عليه اسم الإسلام السياسي، جزء منه محدود التأثير مثل بعض الأحزاب ذات المرجعية السلفية الإصلاحية التي اضمحل حضورها بعد سنوات من تأسيسها، مثل حزب جبهة الإصلاح الذي تأسس سنة 2012. وجزء منه ذو حضور مناسباتي مشهدي بأطروحات تقليدية لا تؤمن بالديمقراطية ولا الانتخابات ولا الدستور ولا البرلمان، ويجسده حزب التحرير، الذي بقي خارج سياق الأحداث التي شهدتها مرحلة الانتقال الديمقراطي. بالإضافة لأحزاب ذات مرجعية شيعية لا تخفي ولاءها لإيران على غرار حزب الوحدة الإسلامي الذي تأسس في يناير/كانون الثاني 2013. يبقى التيار الأبرز ضمن مكون الإسلام السياسي هو حزب حركة النهضة، الاتجاه الإسلامي سابقًا.

خاتمة

في إطار الجواب عن مآل حركة النهضة وتحولاتها، ما يقره الكثير من النهضويين أنفسهم أن النهضة التاريخية انتهت بمقتضى ما طرأ عليها من تطورات، مقابل نهضة الراهن التي تعيش حالة أزمة هي جزء من الأزمة العامة التي تعيشها كل الأحزاب والمنظمات الوطنية في سياق الترويج لفكرة نهاية الأحزاب والأجسام الوسيطة باعتبارها أساسًا لإدارة الشأن العام، والإعلان عن نهاية الديمقراطية التمثيلية.

لعل أهم ما يبقى من النهضة بعد كل ما مرت به من تجارب: رصيدها البشري من المناضلين الذي يشكل نواتها الصلبة الثابتة، ومراجعاتها التي إن وقع تفعيلها بجدية يمكن أن تكون مدخلًا لتجربة جديدة، ونموذجًا لتجارب الحركات الإسلامية، وما استقر عليه فكرها السياسي من نهج سلمي نابذ للعنف واختيارها للديمقراطية منهجًا للتغيير، وأدبيات زعيمها التي لم تحظ بما تستحقه من اهتمام في ظل التجاذبات حول شخصه داخل الحزب وفي تجربة الحكم.

يشير السياق الوطني إلى وجود تيار محافظ واسع في البلد يحتاج إلى تعبيرة فكرية وسياسية أصيلة تمثله وتعبر عن ضميره ومطالبه. لقد فقدت النهضة جزءًا من جمهور هذا التيار بفعل الملابسات والسياقات والإكراهات سالفة الذكر، وبنفس القدر لم تستطع أن تكسب ثقة التيار الحداثي. مقابل ذلك لم تتمكن أي جهة إلى حد اليوم من كسب ثقة هذا التيار المحافظ. ولا يمكن للنهضة أن تستعيد ثقة هذا التيار وتستأنف حضورها في المشهد السياسي ما لم تتمكن من مواصلة القيام بمراجعات جذرية شاملة وإصلاح شأنها الحزبي وصياغة رؤى وتصورات جديدة تستفيد فيها من أخطائها وتستجيب لحاجات البلاد التنموية والاجتماعية. لكن ذلك يبقى رهين استعادة المسار الديمقراطي وعودة الحياة السياسية والمدنية للبلاد.

رابط الدراسة كاملة على موقع مركز الجزيرة للدراسات

Exit mobile version