أبو يعرب المرزوقي
1. أعلم أن ما سأقوله الآن حول ما عليه العالم وما سيكون عليه مآل الحلف الغربي في سعيه لمواصلة السيطرة على العالم ووصوله إلى ما سيؤدي إلى انفراط عقده لأنه بصدد خسران حربيه في مواجهة خصميه الماضيين وفقدان القدرة على الاستعداد لخصمه الجديد أي الحلف الشرقي الذي يستعد لتحديه: الصين.
2. فمن يغفل عن كون الغرب الجديد (الولايات المتحدة والسوفيات) بعد الحرب العالمية الأولى شرع في إنهاء الإمبراطوريات الأوروبية السبع (إنجلترا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وهولندا) ليتقاسم العالم لكن ما أخذاه منه هي دار الإسلام بالأساس في أفريقيا وآسيا وحتى العالم الحديد.
3. سيقال وما دخل العالم الجديد أي ما يظن اكتشاف كولومب على تسليم صحة ذلك يبقى ذا صلة بالمعركة بين المسلمين ومحتليه الأول وخاصة جنوب أمريكا أي إسبانيا والبرتغال ومن ثم فثقافته لصيقة بثقافة الأندلس وأهله جلهم مطبوعين بما يشبهنا إلى حد كبير.
4. محاولة تغريب دار الإسلام ومعها أمريكا اللاتينية تواصل المعركة مع الحضارة الإسلامية أو مع من تأثروا بثقافتها هي التي تمثل عودة الماضيين: 1. الأول: هو صمود الحضارة الإسلامية 2. الثاني: استئناف القطب الثاني بعد سقوطه أي السوفيات ولكن بتأسيس على تراث الأرثوذكس أي عودة القيصرية الروسية.
5. ذانك هما الخطآن اللذان ضيع فيهما القطب الواحد الذي تلا سقوط السوفيات: توهم نهاية قوة روسيا والبدء بالحرب الصريحة على من استعملهم رديفا في إسقاطه وخاصة المسلمين الذين يرفضون الشيوعية وظنهم لعبة بين يديه ثم ارتد عليهم ليصفيهم فأضاع عقدين في حرب عبثية هي علة مأزقه الحالي لقصر نظره.
6. والخطأ هو مواصلة القطبين اللذين ورثا الإمبراطوريات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية -السوفيات والأمريكان- واصلا خطة سايكس بيكو ووعد بلفور وتصوروا الحسم النهائي مع الإمبراطورية العثمانية باعتماد عميليهما أي إسرائيل وإيران لتثبيت تفتيت الجغرافيا وتعيين عملاء لتفتيت التاريخ.
7. ففرضوا العلمنة العسكرية على كل بلاد الإسلام حتى يثبتوا فتات المحميات التي تقاسهما القطبان بذراعيهما أي السوفيات وإيران والأمريكان وإسرائيل. وهذه الوضعية استؤنفت بعد عودة روسيا الحالية بحيث إن الغرب والشرق كلاهما له مصلحة في بقاء اللعبة: الحاجة إلى إسرائيل وايران لمنع عودة الإسلام.
8. وشرط تحقيق هذه الخطة تقتضي أمرين: الأول جعل إيران تبقى مخربا داخليا ولكن بشكل الشاهنشاهية أي دور مساعد الشرطي الإسرائيلي (مساعد الشريف بالمعنى الأمريكي) في الإقليم والإبقاء على حيازة إسرائيل قوة الردع المطلق حصرا فيها دون سواها في كل دار الإسلام شرطا في المحافظة على سايكس بيكو.
9. وقلت عديد المرات أن ما يخيفني هو الصلح الممكن بين أمريكا وروسيا لضرب عصفورين بحجر واحد: منع المسلمين من استئناف دورهم وعزل الصين خاصة والهند صديق لروسيا ولأمريكا ومنافس للصين ما يعني أن ما ينقصهما ديموغرافيا بالقياس إلى الصين يسده الهند وهو يشاركهم الخوف من عودة الإسلام لدوره.
10. فيكون مشكل أمريكا وروسيا والهند واحد: منع الصين من أن تصبح ندا للحلف الغربي ومنع المسلمين من استئناف دورهم لئلا يصبحوا قادرين على منعهما من الإبقاء على دار الإسلام غنيمة المعركة بين القطبين أي السيطرة على الطاقة والممرات اللتين جلهما في دار الإسلام لشغلها قلب المعمورة بينهما.
11. وصلت الآن إلى بيت القصيد بحيث يمكن حصر المأزق الغربي في الجواب عن السؤال التالي: هل يمكن للغرب أن يبقي على تفرد إسرائيل بالردع النووي ومنع بقية أهل الإقليم من حيازته فيكون عليه منع تركيا والعرب وضرب باكستان أم هو سيضطر لإخلاء الإقليم من النووي مع معاملته مثل البابان وكوريا؟
12. تلك هي المفارقة التي بدأت فقلت إن القارئ سيعجب مما أريد بيانه: مأزق الغرب يرجع في النهاية إلى فشل سايكس بيكو وفشل مشروع بلفور. العلمنة العسكرية فشلت لأن التفتيت الجغرافي فشل بسبب فشل التشتيت التاريخي بحيث إن فضيلة التداخل العرقي والطائفي في محمية جعلها في صلة بالتي تجاورها.
13. فاستحال الاستقرار كل قطر مشاكله تحرك مشاكل جاره بحيث إن الفتات الجغرافي فشل فبقي مترابطا لأن الشتات التاريخي لم ينجح فعاد من جديد ليصبح محركا قويا ولم يبق فيه إلا ما كان موجودا فيه سابقا أي العدوين المتقدمين على الإسلام الميل للاسترداد الذي وظف الصهيونية خارجيا والصفوية داخليا.
14. مأزق الغرب هو بالذات انقلاب أداتيه عليه: كيف يحافظ على الإقليم بالسيطرة على طموح أداتيه المستعدتين للتحرر منه ولو بالحلف مع عدوه الحالي أي الصين. لذلك فالغرب يطلب حاليا الاعتماد على جذب روسيا والهند لمنع ذلك ومن ثم للإبقاء على الصهيونية والصفوية تحت السيطرة لمنع دور المسلمين.
15. وأكاد اجزم بان أمريكا تفاوض حاليا روسيا وإيران وهي مطمئنة للهند لما تعلمه من كراهيتها للإسلام والمسلمين وخوفها من الصين لكي تخرج من المأزق الحالي. لكن ذلك يقتضي مخادعة تركيا وباكستان أما العرب فلا تحتاج لخادعهم فهم الأقدر على مخادعة انفسهم لحمق قياداتهم بدليل عدائهم لشرط بقائهم.
16. طبعا يعسر أن يصدق القراء مثل هذا التوالج بين المتناقضات في الظاهر. لكنها هي حقيقة ما يجري: فلو تم لأمريكا استعادة روسيا -وهو أمر لم يعد مستبعد خاصة ونجاح ترامب شبه ثابت- ومن ثم فالسيناريو الذي أتوقعه هو ما وصفت. فيعطى بوتين ما يرضيه وترامب ما يرضيه وتصبح إسرائيل سيدة الإقليم؟
17. بعبارة أوضح: هل ستقبل تركيا وباكستان؟ لأن روسيا ستأكل تركيا والهند ستأكل باكستان وإسرائيل ستأكل الإقليم والعرب سيعودوا إلى ما كانوا قبل الإسلام عبيد العبيد أي الصهيونية والصفوية كما هم الآن لأنهم بدلا من الاستعداد يغمسون رؤوسهم في الرمل مثل النعام لظن تكديس الدولار ثروة وقوة.
18. محميات عديمة السيادة يمكن لأكداس دولاراتها أن تصبح لا شيء بمجرد جرة قلم تجمدها فيعودوا إلى عصر المجاعات التي سبقت تحول العرب إلى قوة عالمية لما كانوا رجالا فتحرروا من حروب داحس والغبراء بينهم فوحدهم الصديق بالقضاء على حرب الردة التي أنهت الفتات والشتات فأسسوا اكبر إمبراطورية.
19. وما كانت حرب الردة تنجح في توحيد العرب لو لم يسبقها تنظيف الجزيرة من الصهيونية بمسماها قبل اسمها استعداد لتنظيف الإقليم من الصفوية بمسماها قبل اسمها استعدادا لإنهاء الاستعمار البيزنطي طيلة قرون انتهت على يد الخلافة العثمانية في منتصف القرن الخامس عشر.
20. وختاما فإن القراء قد لا يفهموا هذا التوالج والتشابك شديد التعقيد لأنهم ينسون التاريخ الذي لم يعد أهم درس حضاري في كل الشعوب التي تستطيع التخطيط للمستقبل بتحديد أمرين هما سر كل استراتيجية ناجعة وناجحة: تدارك ثغرات الماضي أولا وتوقع مطبات المستقبل ثانيا والعمل بالأنفال 60.
21. والأنفال 60 هي نظرية الردع الاستراتيجي من وجهين رمزت لهما الآية بمفهومين: القوة ورباط الخيل. والأولى هي شرط كل قيام ثابت في التاريخ وتشمل المادي والروحي والثانية هي شرط حمايته المتينة في التاريخ وهي القوة العسكرية برمز رباط الخيل الذي يقتضيه تقدمه في صنع أدوات الردع المناسبة.
22. ثم أردفت الرمزين بتحديد الأعداء من هم. والقراءة السريعة تصنفهم إلى ثلاثة أصناف. لكنهم في الحقيقة خمسة عند من يفهم نظرية الحرب وأخلاقها في الإسلام. ظاهريا الأعداء 3 أصناف: عدوكم وعدو الله وأخرون لا تعلمونهم الله يعلمهم. لكنهم خمسة كما يلي عند من يعلم حقيقة الصنف الأخير وهو الأخطر.
23. لماذا هو الأخطر؟ أولا لأنه ليس معلوما بنص القرآن ومن ثم فهو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. ولكن الأهم من ذلك كله هو وجوده في الأولين أيضا أي إن عدونا الظاهر يتضمن بعدا منه وعدو الله الظاهر يتضمن بعدا منه. فيكون الأولان كلاهما مضاعف ظاهر وباطن. كيف ذلك؟ فلنتذكر معنى التقية.
24. فقد يوجد بيننا من يتظاهر بكونه منا تقية وهو عدو لنا ولله أي لديننا ويوجد من يتظاهر بصداقتنا وهو عدو صريح لله أي لديننا. فتكون أصناف العداوة خمسة: نستعد لمن يعادينا دنيويا ويتظاهر بالانتساب لديننا ولمن يعادي ديننا ويتظاهر بالصداقة ويبقى فيها جميعا هذا البعد الغيبي لتقوية الحذر.
25. يوم يفهم العرب هذه المعادلة المخمسة سيفهمون أن التعقيد في تحليل الوضعية ليس تحكما مني بل هو ثمرة قراءة هذه الآية التي جمعت بين استعدادين لمستويي الاستراتيجية: التصدي للتخريب بمعنى سن تسو وللتهديم بمعنى كلاوسفيتس. والله اعلم.
26. وحتى يصبر علي المتسرع من القراء فلينظروا إلى استراتيجية إسرائيل وإيران لضمان استقلال إرادتهما: فإسرائيل رغم كونها تستمد قوتها الحالية من أمريكا فإنها تقول لها لست محمية أمريكية ومن ثم فهي تربط “خيوطها” مع الصين والهند. وإيران تفعل مثلها تعتمد على روسيا وتحالفت مع الصين والهند.
27. لكن العرب يقبلون بمنزلة المحميات. فعندما يدعي عربي بأنه حليف استراتيجي مع أمريكا أو مع روسيا فإن ذلك مدعاة للسخرية. فهو كلام من جنس كلام عبد الناصر عن عدم الانحياز. النهاية أنها جعل مصر عديمة الوجود: ويكفي المقارنة مع عدم انحياز الهند ومنزلة مصر: مصر اضعف مما كانت في الملكية.
28. والسبب هو سخافات حسنين هيكل الذي يزعم فهم الاستراتيجيات في بناء دولة قوية وسخافة حداثيي عقاب الزمان الذين يخلطون بين عادات الغرب الحديث وشروط الحداثة التي حققها الغرب قبل أن يتبنى هذه العادات الاستهلاكية والأيديولوجية.
29. ولا فرق بين عسكر حكم أكثر من سبعين سنة ولا يزال بشتري سلاحه فيدين بشروط حماية وطنه إلى سلاح عدوه سواء كان غربيا أو شرقيا وبين الخيانة العظمى رغم النيات الحسنة والجعجة الدالة على تقديم الاستبداد على الشعب على تحريره ليكون أساس كل قوة رادعة: بحيث إن الشعوب العربية صارت “عيالا”.
30. وصفة العيال ليست لي بل هي ما وصف به ابن خلدون الجماعات التي ربيت بالعسف وحكمت به وذلك سببه كما بين في الفصل 40 من باب المقدمة 6 هو فساد معاني الإنسانية التي تولد أخلاق العبيد لا أخلاق الأحرار: شعوبنا صارت عبيدا للعسكر والمافية.