جارتي لويزة 2
منجي الفرحاني
احتفلت جارتي بعيد ميلادها الثامن والسبعين ولم أتمكن من الحضور لأنني لم أرغب في ذلك متعمدا رغم دعوتها اللطيفة، فعلم فلسطين الذي يرفرف على شرفة شقتي وأخبار الجزيرة ومواقع التواصل تذكرني بحال أهلنا في غزة ألف مرة ومرة عند كل شرود وتطفئ بقعة الفرحة في قلبي المكلوم..
بيني وبيني اتخذت قراري بأن أهديها لوحة من لوحاتي وأفرح قلبها فثقافة احترام الفنون هنا متجذرة عند كل الطبقات.. على عكس الكثير في عالمنا العربي المغلوب على أمره برضاه.. لن أنسى ردة فعل بنت صديقي من أحد البلاد العربية عندما رسمت لها لوحة خاصة بمناسبة ربيع ميلادها السادس عشر، نظرت إليها نظرة عابرة ثم ألقتها وراء ظهرها وتجاهلتها حتى خلت أنها لم تُرسم وربما لولا بقية حياء في جيناتها الشرقية لألقتها في سلة المهملات..
كتبت لجارتي إهداء على ظهر اللوحة ثم ضربت الجرس ولما خرجت اعتذرت لها عن عدم حضور حفلتها ثم ناولتها اللوحة:
هذه هديتي سيدة لويزة أرجو أن تنال إعجابك.. ثم غادرت دون أن أنتظر ردة فعلها وأحرجها أو أحرج نفسي فأنا صراحة لم أهديها من اللوحات أجملها في عيني..
ها أنا أنقر بسبابتيَّ على لوحة حاسوبي وأكتب هذه الكلمات حتى خيل إلي أنهما ترقصان على ألحان الشيخ إمام:
أنا الشعب مهما يقيموا السجون
ومهما كلابهم تحاول تخون
حيطلع ناري وأدمر بناري
بحور الكلاب والسجون من طريقي
أنا الشعب ماشي وعارف طريقي
عن يميني يجلس صديقي التونسي فلان يتابع فيديوهات على هاتفه الذكي ولا يراعي ودا ولا عشرة.. مرة يبكي مع غزة آلامها ومرة أخرى يشمت في جنود صهاينة وقعوا في الفخ وثالثة يتابع ملهطا ترقص رقصة تيكتوكية فاجرة ورابعة يعطيني دروسا في الوطنية عن تونس في زمنها الجميل.. فأرد متهكما: شكون الطحان جميل هذا ما عرفتوش؟
أما عن يساري فقهوتي العربية في فنجانها نصف الملآن وساعة يد تحسب الزمن بعيدا عن معصمي وهاتفي الذكي نائم على ظهره يغط في نوم عميق وبعض الشموع المعطرة التي تنتظر ليلي الطويل وقطع نقدية متفرقة من اليورو تتوسطهم مائة مليم تونسية منسية.. دون أن أنسى علبة الأقلام مختلفة الألوان التي تسلل بيتها عود عنبر وريشة رسم..
أمامي وعلى مرمى العينين هذه الكلمات، لست أدري من منا يكتب الآخر.. قال فلان إنه قابل تلك الفتاة الفرنسية في باب بحر قبل خمسة عقود في يوم ميلادها.. أخدها ليهودي يبيع الفضة واشترى لها خاتما غير الذي أعجبها لأنه كان أكبر من ميزانيته المتواضعة.. ثم في قلب باب بحر وشوش في أذنها: أريد أن أكشف لك سرا عجيبا أرجو أن يعجبك: لقد سرقت لك الخاتم الجميل الذي أعجبك.. عانقته بقوة وقبلته ودمع العين يسبقها: وأنا أيضا سرقت خاتما آخر غير الذي أعجبني لأنه تبخر عجبا.. يعني سارق من تحت لصة ههههه
جارتي التي قابلتها عند المصعد طمأنتني على اللوحة.. قالت إنها لا تشبع من النظر إليها..
ثم في أقل من دقيقة أو أكثر بقليل حدثتني عن ابنها صاحب الواحد والستين عاما وصالون الحلاقة الذي اكتشف الأطباء مرضا سيفقده بصره إلا قليلا وعن ابتنها المدرسة التي تفكر في التقاعد المبكر وفي الطلاق من زوجها بارد الإحساس، أنا الحقيقة فهمت جاجة أخرى الله يسامحني ههههه.. عن ابنتها الثانية التي تعمل في مجال رعاية المسنين لأن قلبها مليء بالمودة والرحمة.. ثم عن أيام عزها عندما كانت تعشق لباس الفساتين مفتوجة الصدر décolleté ويقع في شراكها أعتى الرجال، آخرهم طليقها الذي أخذها إلى كينيا وأكّلها صمصتها المحلية..
لما أفقت من غيبوبة الكتابة هذه، عرفت أن الشيخ إمام توقف منذ أمد بعيد عن الغناء المباح وأن فلانا التونسي قد غادر بعد أن شاركني بين السطور وجبة العشاء والقهوة العربية وأرهقني بدفاعه المستميت الذي لا ينتهي عما يسميه بالزمن الجميل وأسميه أنا زمن النكسة أو النكبة أو الطحين الفاخر…