عبد السلام الككلي
استمعت اليوم الجمعة 1 مارس 2024 في احدى الإذاعات الخاصة الى الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدبن الطبوبي يتحدث عن التجمع العمالي الذي دعت إليه المنظمة يوم السبت 2 مارس 2024 وعن إيقاف الأمين العام المساعد الطاهر البرباري (وقع اطلاق سارحه صباح اليوم بعد حديث الطبوبي) وعن طبيعة الاختلاف مع السلطة. كرر الطبوبي في حديثه عن الاتحاد أن المنظمة لا تتدخل في الشأن السياسي وانها نأت بنفسها عن أية مشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة أو غيرها مع المحطات الانتخابية التي جرت بعد 25 جويلية وكأن الأمر باختياره.
يبدو أن ذاكرة السيد الأمين العام قصيرة. فقد كانت المنظمة طرفا فاعلا في الشأن السياسي بعد 14 جانفي 2010. قاد الاتحاد الحوار الوطني في 2013 – 2014 وكان طرفا أيضا في تشكيل الحكومات بعد الثورة بل انه ساهم في كل المحطات الانتخابية بملاحظيه وتقاريره. بل اكثر من ذلك إذ ساند مترشحا للانتخابات الرئاسية في 2019 اذا صدقنا ما قاله بعض المسؤولين النقابيين في هذا الشأن.
وفي كل الحالات تبقى مشاركة المنظمة النقابية في السياسة موضوع جدل. وسنحاول في هذه الورقة استرجاع بعض الأحداث التي تذكر بعلاقة الاتحاد بالشأن السياسي بعد الثورة خلافا لما يقوله الأمين العام الذي فرضت عليه الأوضاع التي تعيشها البلاد بعد 25 جويلية التملص من وضع كان فيه الاتحاد فاعلا في الشأن العام بل فرضت عليه الصمت حتى قال الطبوبي مرة محاولا تبرير هذا الصمت بعد اللغة القوية التي ميزت خطابه تجاه كل حكومات ما بعد الثورة بانه شكل من أشكال النضال وهو الكلام الذي أثار سخرية الجميع.
الاتحاد والشأن السياسي قبل 25 جويلية وبعده
1. مساهمة الاتحاد في تشكيل الحكومات بعد الثورة
بعد أن كان راعيا للحوار الوطني الذي انبثقت عنه حكومة مهدي جمعة أصبح اتحاد الشغل طرفا فاعلا في مبادرة رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي الرامية لتشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على إنهاء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في سنة 2014.
وكان لاتحاد الشغل دور فعال في مرحلة اختيار رئيس الحكومة باضطلاعه بمهام الرقابة وإبداء الآراء دون ترشيح أسماء.
وفي هذا السياق قال الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل المرحوم بوعلي المباركي الأمين العام المساعد البارز إن الاتحاد ساهم بشكل فعال في المرحلة الأولى من مبادرة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وساهم في إعداد برنامج وأولويات الحكومة المرتقبة وأكد في نفس الوقت عدم مشاركته في هذه الحكومة.
وأبرز المباركي في تصريح صحفي، الإربعاء 27 جويلية 2016، أن دور الاتحاد العام التونسي للشغل في المرحلة الثانية من المبادرة الرئاسية سيتثمل في إبداء رأيه حول الأسماء المقترحة لرئاسة حكومة الوحدة الوطنية.
وبين أن الاتحاد سيؤكد في هذه المرحلة على ضرورة أن يكون رئيس حكومة الوحدة الوطنية شخصية متوافقا عليها بين الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية وسيعترض على ترشيح شخصية منبثقة عن محاصصات حزبية، وفق المباركي.
وقال الأمين العام المساعد أن الاتحاد سيطالب بأن تكون الشخصية المرشحة لرئاسة حكومة الوحدة الوطنية ذات كفاءة عالية وتمتلك صفات تؤهلها لتنفيذ أولويات حكومة الوحدة الوطنية المتفق عليها في المرحلة الأولى من مشاورات تشكيل هذه الحكومة المرتقبة مشددا في نفس الوقت على أنه لن يرشح أسماء لرئاسة الحكومة.
وعن إمكانية اعتراض الاتحاد العام التونسي للشغل على ترشيح شخصية من حركة نداء تونس لترؤس حكومة الوحدة الوطنية قال بوعلي المباركي «ليس المهم أن يكون رئيس الحكومة القادمة متحزبا أم غير متحزب لكن المهم أن تتوفر فيه صفات الكفاءة لأن هذه الحكومة ستكون حكومة الفرصة الأخيرة وحكومة الإنقاذ».
وسيدعو اتحاد الشغل بحسب المباركي للإسراع في تنفيذ المرحلة الثانية من مبادرة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وتعيين رئيس حكومة ووزراء في أسرع وقت دون تسرع لأن تونس تمر بوضع اقتصادي صعب، بحسب المتحدث.
2. الاتحاد وانتخابات 2014
ساهم الاتحاد بشكل فعال في انتخابات 2014 وبعث للغرض مرصدا للانتخابات التشريعية والرئاسية.
ونشر في 13 نوفمبر 2014، التقرير التأليفي للمرصد النقابي لملاحظة الانتخابات التشريعية في 26 أكتوبر 2014.
وكشف في هذا التقرير عن نقائص التي شابت العملية الانتخابية ولكن تضمن توصيات كانت عبارة عن خطة عمل مستقبلية تعني مشاركة الاتحاد في العملية الانتخابية.
فقد دعا الى بعث فروع جهوية قارّة للمرصد النقابي لملاحظة الانتخابات والى أن تشمل الملاحظة كامل المسار الانتخابي وإلى تكثيف التّعاون مع المنظمات الحقوقية (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين…) لتحقيق التّكامل وتظافر الجهود لإنجاح عمليّة ملاحظة الانتخابات.
ودعا النقابيين إلى الإقبال بكثافة على المشاركة في ملاحظة الانتخابات وتلقّي التكوين الملائم للغرض.
واكد عمله على توفير الاعتمادات الضّروريّة ووسائل النقل لتسهيل عمل الملاحظين خاصّة في المناطق الريفية أو النائية كما التعريف بعمل المرصد النقابي لملاحظة الانتخابات في وسائل الإعلام لإبراز دور الاتحاد العام التونسي للشغل في الدفاع عن مكاسب الثورة في الحرية والديمقراطية وحمايتها من كلّ انتكاسة أو تراجع. غير أن هذا البرنامج اختفي بالكلية كما اختفى معه المرصد بكل أماله ووعوده.
3. الاتحاد وانتخابات 2019
قال الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل أمام حشود من أنصاره، أمام مقر البرلمان التونسي في جانفي 2019 بمناسبة إضرابٍ عام أعلنه لفرض الزيادات في الوظيفة العمومية، إن المنظمة النقابية ستكون مهتمة بشكل كلّي في المستقبل بأي انتخابات تُجرى في تونس، قائلًا «إن الاتحاد تهمّه الانتخابات التشريعية والرئاسية، ولن يتخلّى عن حقه في أيّ من الانتخابات القادمة». وجاء هذا الإعلام بمنزلة رسائل ومقاصد متعددة الأبعاد حين كشف الأمين العام عن عزم المركزية النقابية المشاركة بكامل ثقلها في المحطات الانتخابية في عام 2019. وهو الإعلان الذي أثار جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية التونسية وقتها بين مؤيد ومتخوّف. وطَرح علانية حزمةً من الاستفهامات بشأن مستقبل المنظمة النقابية وأدوارها إذا أقحمت نفسها بصفة رسمية في عالم السياسة من بوّابة المشاركة في الانتخابات، وهو ما قد ينتج عنه إعادة تشكيل المشهد السياسي والإصطفافات الحزبية في البلاد، ولا سيما أن مشاركة الاتحاد إذا حصلت، فستُخرج المنظمة كليًا من الاكتفاء بدورها الاجتماعي إلى القيام بدور سياسي سيكون له تأثير بالغ في مستقبل الحكم، ويقود عاجلًا أو آجلًا إلى تحوّل الاتحاد من منظمة نقابية إلى حزب عمالي[1]. ولئن تراجع الاتحاد بعد ذلك عن المشاركة بقائمات مستقلة، فإن تراجعه عن ذلك والاكتفاء بتكوين ملاحظين له وإعدادهم في المحطات الانتخابية كلها، كان الهدف منه الإيحاء بوجود قوة ضغط ووصاية يريد إيصالها إلى جميع الفاعلين السياسيين. كان الاتحاد يريد، بلا شك، إبراز امتلاكه خزّانًا انتخابيًا كبيرًا باعتباره أكبر منظمة نقابية، ولذلك ما على الأحزاب إلّا أن تجيب عن أسئلته المئة وواحد التي عرضها عليها، والتي كانت نوعًا من التحدي لها كلها.
4. الدور السياسي للاتحاد محل جدل دائم
إنّ الدور السياسي الذي قام به الاتحاد منذ تأسيسه في عام 1946، سواء قبل الثورة، ، أو بعدها، أثار ويثير دائمًا الكثير من الجدل السياسي في أوساط السياسيين والناشطين وحتى النقابيين، وهو ما دفع مجموعة من الجامعيين والمسؤولين النقابيين السابقين إلى استغلال مؤتمر الاتحاد الملتئم في عام 2017 للتوجّه إلى جميع النقابيين، بنداء حتّى يعيدوا النظر في طبيعة العمل النقابي ودوره في مرحلة ما بعد الثورة، إيمانًا منهم بدور الحركة النقابية في دعم الديمقراطية وترسيخ الوحدة الوطنية والدفاع عن العدالة الاجتماعية وتغليب المصلحة العامة على المصالح الشخصية والحزبية والفئوية والجهوية. واعتبر هؤلاء أن المهمة الوطنية الموكلة إلى المنظمة النقابية في الظرف الجديد بعد الثورة، ليست إنجاز مهمات سياسية أو المشاركة في إدارة الحكم، بل حماية الديمقراطية الناشئة والذود عن القيم الديمقراطية وقيم الجمهورية ودعم الوحدة الوطنية والتضامن الاجتماعي. كما ليس من مهماتها الانتصار إلى خيارات سياسية يفترض في الديمقراطيات كلها أن تكون من مهمات الأحزاب والانتخابات وما تفرزه من أغلبيّات، إنما تغليب مصلحة الشغالين في إطار رؤية موضوعية للمصلحة الوطنية والتزام الحياد تجاه الفرقاء السياسيين[2]. وفي الأحوال كلها، تبقى هذه المسألة، في تونس، أمرًا متنازعًا اليوم بشأنه في النقاش العام، خصوصًا بعد الانتخابات الأخيرة (2019).
يجد موقف الجامعيين والنقابيين هذا وجاهته في الاتهامات التي توجّه إلى الاتحاد بالدخول في الصراعات الحزبية وتغذيتها، حيث اتُهم بمناسبة الانتخابات الرئاسية في عام 2019 بأنه لم يكن يومًا محايدًا، وأنه وقف في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية مع المرشح عبد الكريم الزبيدي (وزير الدفاع الأسبق). ولم يصدر هذا الاتهام فحسب -وهذا هو اللافت في المسألة- عن جهات إعلامية أو سياسية، بل صدر صراحة عن أبرز قيادات الاتحاد القطاعية، وهو لسعد اليعقوبي (الكاتب العام السابق للجامعة العامة للتعليم الثانوي وعضو الهيئة الإدارية) الذي اتهم الاتحاد بأنه ساند الزبيدي في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية وخسر الرهان. لكن المركزية خيّرت عدم الرد عليه، والحال أن الاتهام صدر من داخل هياكل الاتحاد. وهو ما كان يهدد بشكل فادح وحدة الموقف داخل المنظمة الشغيلة ويمس صدقيتها، وهي التي بقيت دائمًا ترفع شعار الحياد. ولقد تصدعت هذه الوحدة من خلال الصراع الذي جرى بين اليعقوبي مدعوما بمحمد علي البوغديري الأمين العام المساعد بمناسبة الانقلاب على الفصل 20 من القانون الأساسي للاتحاد إذ وقف اليعقوبي والبوغديري في وجه أي تحوير للفصل 20.
على أن منزلة الاتحاد في تونس وانخراطه الفاعل في العمل السياسي باعتباره ظاهرةً استثنائيةً في العالم العربي، وربما على المستوى الدولي [3]، لا تزال تحتاج إلى دراسات نقدية تبيّن فرادة هذه الظاهرة وانعكاساتها على العمل الحزبي ومدى قدرتها في العالم العربي، خصوصًا في الدول التي تسمح بنوع من حق انتخابها ديمقراطيًا، على التأسيس لأي مجتمع مدني مقبل، من دون أن يؤول ذلك إلى التأثير المفسد للسياسة بمفهومها الحزبي على استقلالية الجمعيات عمومًا، والنقابات خصوصًا، مع ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من مخاطر الخلط بين المطالب المهنية أو الحقوقية والحسابات السياسية [4]. وفي الأحوال كلها، فإن هذه المسألة تبقى في تونس أمرًا متنازعًا اليوم بشأنه في النقاش العام.
في الأخير نحن مع بيان الجامعيين حول ضرورة ناي الاتحاد بنفسه عن الشأن الحزبي ولكننا نظل على قناعة انه الجهة الوحيدة القادرة على حماية الديمقراطية من الانحراف الذي أصابها بعد 25 جويلية وعلى الوقوف في وجه الاستبداد الزاحف منذ الانقلاب على دستور 2014 ومحاولة إلغاء كل الأجسام الوسيطة ومنها الوسيط النقابي.
الهوامش
[1] توفيق المديني، الاتحاد العام التونسي للشغل حزبًا معارضًا (تونس: جمعية هوية المقاومة، 2019)، ص 13.
[2] «في رسالة مفتوحة جامعيون نقابيون للمؤتمرين المطلوب إعادة النظر في طبيعة العمل النقابي»، الصباح، 20/1/2017، شوهد في 22/1/2017، في: https://bit.ly/3by3mTH
[3] في ما يخص دور المجتمع المدني والنقابات في مرافقة التحول الديمقراطي عمومًا، وفي العملية الانتخابية خصوصًا، ينظر: مايكل إدواردز، المجتمع المدني النظرية والممارسة، ترجمة عبد الرحمن عبد القادر شاهين، سلسلة ترجمان (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 49؛ عزمي بشارة، المجتمع المدني دراسة نقدية، ط 6 (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص 305؛ صلاح عبد العاطي، «دور منظمات المجتمع المدني في الرقابة على الانتخابات»، الحوار المتمدن، العدد 1259، 18/7/2005، شوهد في 6/12/2019، في: https://bit.ly/2WncuoH؛ جاسم محمد دايش، «دور مؤسسات المجتمع المدني في الانتخابات»، الحوار المتمدن، العدد 6227، 12/5/2019، شوهد في 6/12/2019، في: https://bit.ly/2WmcULM
[4] عزمي بشارة، ص 305.