لا فقها فهمنا ولا عبادة فقهنا!!

طه البعزاوي

حين نتأمل كثيرا من أحوالنا ندرك أننا نعيش حالة انفصام حاد بين ممارسة العبادات والشعائر من جهة والوعي ببعض مقاصد ذلك وأهدافه في المقابل.

وبقدر حرص بعضنا على إتقان الشكل الظاهر في العبادة والالتزام بسننها فضلا عن واجباتها تغيب المقاصد أو لا يهتم بها أصلا، بل هناك من ينكرها ويعد الحديث عنها بدعة.

هذا موضوع كبير لا يمكن الإتيان على جوانبه في مقال وجب أن يكون قصيرا، لذلك أكتفي منه بالخاطرة التي كانت بمثابة القادح.

تذكرت تعليقا طريفا للشيخ حسن الترابي رحمه الله وهو يتحدث عن فقه العبادات ومقاصدها ويضرب مثلا من رمي الجمرات في أعمال الحج. ولكن قبل ذكر ما قال، أذكر أن رمي الجمرات من واجبات الحج وهو تجسيد لما فعله النبي إبراهيم عليه السلام حين رجم الشيطان بحصوات.

ما رأيته بأم عيني أن المسلمين من كل بقاع الأرض يتحلقون حول الجمرات (الشيطان) ثم تحصل لدى جموع كبيرة منهم حالة تشبه “التخميرة” فينسون حقيقة العبادة وشكلها كما وردت في “خذوا عني مناسككم”… فترتفع الأصوات ويكثر الهرج ثم لا ترمى الجمرات بالحصوات فقط، وإنما ترى أحذية طائرة وأشياء أخرى، وكثيرا ما يدمي الحجاج بعضهم بعضا. ويخيل لكثير منهم أنها فرصتهم للنيل من الشيطان وصب جام الغضب عليه!

ويروى أن حاجة رمت على الجمرة حذاء فنبهها أحد الحجيج أن ذلك لا يجوز فردت عليه: “ليه هو أريبك”؟!

أعتقد أن ما يسعد الشيطان في أيام “رمي الجمرات” أكثر مما يغيظه! بسبب الأرواح التي تزهق سنويا في التدافع والفوضى! والأمر ذاته بالنسبة للتزاحم على تقبيل الحجر الأسود، فقد رأيت بعيني حاجا من شمال إفريقيا يمسك الناس من أعناقهم ويدفعهم من طريقه كأنه يفتك بخصومه في ميدان حرب وجهاد، وذلك ليبلغ الحجر ويقبله! ولما نبهته أن ما يفعله جهل اشتهى أن يفتك بي لو لا أن الجموع حالت بيننا!

وأما الصورة التي تدبرها الشيخ الترابي، فقال إن المسلمين من أصقاع الدنيا يتحلقون سنويا في موسم الحج حول الجمرات ويرجمون الشيطان، ولكنهم حين يعودون إلى بلدانهم لا توحي لهم تلك الصورة كي يتحلقوا حول “شيطان” الاستبداد فيرجمونه ويضعون نهاية لاستبداده.

وفي الإحرام والصوم وصف الصلاة مقاصد وحكم مشابهة ولكن قليل من يتدبرها.

تعلمنا في كافة مراحلنا التعليمية الفرق بين فروض العين وفروض الكفاية، ففرض العين هو الذي يجب على كل مسلم بالغ وعاقل إن لم يقم به أثم كالصلاة المكتوبة، وأما فروض الكفاية فهي التي إن قامت بها فئة سقطت في حق البقية، والمثل التقليدي لذلك هو صلاة الجنازة. ولذلك يصلي المسلمون صلاة الغائب على مسلم سمعوا أنه مات في أقاصي الدنيا ولم يصل عليه.

طبعا مجال فروض الكفاية مجال واسع وعريض ومن البساطة والتسطيح اختزاله في صلاة الجنازة!
وقد كتب في هذا بعض العلماء والمفكرين وبوبوا ولكن يبقى في حاجة كبيرة للفقه ونشر الوعي به. فهو مجال عمل الدولة وجمعيات المجتمع المدني وكل من له تخصص في أمر ما تحتاجه “الأمة” ويندرج فيما “يطعم من جوع” و”يؤمن من خوف” و”يشفي من مرض”!

حتى أن أحد العلماء يقول إن الأمة بمجموعها تأثم إن قصرت في صناعة إبرة تحتاجها.

ولكننا بعيدون عن هذا كل البعد رغم كل الخيرات التي حبى الله بها الأمة الإسلامية.

ولذلك كل من علم بجائع -فضلا عن أن يكون مسلما- ولم يطعمه أثم!… “والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم”!

وتأمين الخائف كذلك! … “وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ” (6 التوبة)

“وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ( (75 النساء)

ما علاقة الحديث بين مشهد رمي الجمرات وفروض الكفاية؟!

الأصل أن نصرة المستضعفين في أي مكان وإطعامهم من جوع وتأمينهم من خوف هو فرض كفاية على الأقرب فالأقرب حتى يتحقق المقصود، فإن لم يتحقق أصبح فرض عين يحاسب كل على قدر مسؤوليته وإمكان فعله.

وحساب الحاكم غير حساب المحكوم، وحساب الجار غير حساب البعيد، والفقير غير الغني، ومن يملك فعلا نافعا ولا يفعله غير من لا يملك!

ولأن ما يحدث في “القطاع” من أهوال يشيب لها الولدان -وقد ترك أهله يواجهون الإبادة بالقصف والجوع- فإن شعوبنا كلها آثمة ما لم تكسر الحواجز وتزيل كل العقبات التي تقف حائلا متواطئا مع الأعداء ومشجعا على الإبادية!

إن أمة تعجز أن تمخر سفنها المدنية السلمية البحر المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب باتجاه القطاع المحاصر، وتعجز شعوبها أن تزحف من شمال الأرض المحتلة وجنوبها وشرقها، أمة ليست جديرة بالاحترام. وستدرك يوما أن ما يحدث في القطاع لن يقف هناك!

ومن طلب السلامة بالصمت على إبادة أخيه يمر إليه العدو فيرديه ويلحقه بأخيه!

وإن لم يتداركنا الله وإياهم برحمته سيأتي علينا يوم نتمنى لو كنا من ضحايا الإبادة بالقصف والجوع بدلا من المشاهدين أو حتى الباكين من بعيد!

وحسبنا وحسبهم الله
واللعنة على الخونة والمجرمين