نصر الدين السويلمي
في يوم 12 شعبان من العام 1322 رحلت الصحفية والمستكشفة السويسريّة الرّوسيّة إيزابيل إيبرهارت.
ولدت في جنيف سويسرا في 17 فيفري 1877.
أمّها أرستقراطيّة روسيّة من أصول ألمانيّة، ووالدها من روسيا.
تلقّت تربية تعليميّة حازمة، فبرعت في الفرنسيّة والألمانيّة واللاتينيّة واليونانيّة، والرّوسيّة والإيطاليّة والعربيّة.
منذ نشأتها اهتمت إيزابيل ثمّ ولعت بالشّرق وحضارته، رغم أنّها كانت تعيش في قصر عيشة الملوك، إلّا أنّ العائلة وحين كبرت تشتّتت وهاجر أفرادها في أكثر من اتجاه، ظلّت الأمّ وابنتها إيزابيل فقرّرتا الرّحيل إلى الجزائر والاستقرار في الحيّ الأوروبي.
حين وصلت الباخرة إلى ميناء عنّابة قالت إيزابيل “هذا الشّعب هو شعبي. إنّ حياتي معقودة بشكل نهائي مع هذا البلد الذي لا يجب أن أتركه أبداً، أنا التي لن تشبعني تلك الحياة النّاعمة والهادئة في أيّة مدينة أوروبيّة”.
بعد شهرين أو ثلاثة من وصولهما إلى عنّابة اعتنقت الأمّ الإسلام واختارت اسم فاطمة، وبعد نصف سنة من وصولها ماتت الأمّ ودفنت في مقبرة الزٍغواني بعنّابة، وكأنّها جاءت خصيصا من جنيف لتعتنق الإسلام وتموت وتدفن في الجزائر.
عندما نقرأ كلماتها ” ليس لي وطن. فأنا أعبر الحياة، مثل غريبة. أنا وحيدة حالمة ترغب في أن تعيش حياة بعيدة عن العالم مثل البدوّ الرحّل” ندرك لماذا انتقلت إيزابيل من جنيف إلى الحيّ الغربي في الجزائر ومنه إلى الحيّ العربي، ثمّ توغّلت في الصّحراء.
تدرّبت على ركوب الخيل، اشترت حصانا.. تنكّرت في زيّ رجل.. لبست البرنس.. سمّت نفسها سي محمود السّعدي.. ثمّ انطلقت في رحلة طويلة.
انتهى بها المطاف في وادي سوف، هناك أطلقت عبارتها المعروفة “أحاول أن أكون صديقة نفسي، وأن أحتمي بصمت الصّحراء، إنّ الصّمت المربك لمحيط الرّمل هذا يفتنني، إفريقيا وطني العزيز لا أريد أن أغادرك إلى الأبد”.
عشقت الوادي وانصهرت في ثقافته، ثمّ وفي نوفمبر من العام 1900 اعتنقت الإسلام وقالت عن ذلك “سيساعدني الإسلام في العثور على السّلام الحقيقي، سينقذني، ويخرجني من ظلمات الجاهليّة”.
في الوادي اشترت حصانا أبيضا سمّته “سوف”، ثمّ أطلقت جولة في الصّحراء، هناك تعرّفت إلى شرائح مجتمعيّة فقيرة معدمة استنزف الاستعمار خيراتهم، تعاطفت معهم وبدأت تكتب عن حقوقهم في الصّحف وتندّد بسلوكات المستعمر.
في سوق وادي سوف، تعرّفت إيزابيل على شاب جزائري اسمه سليمان إهني.. نشأ بينهما جسرا من العواطف انتهى بالزّواج الشّرعي في الزّاوية.
اشتغلت إيزابيل مراسلة حربيّة في ثورة الشّيخ بوعمامة، واجتهدت كثيرا للقاء الشّيخ المجاهد، وتؤكّد بعض الأخبار أنّه التقاها بــ”واحة فندي”، ولقد أضحكها الشيخ بوعمامة حين رحّب بها بطريقته الخاصة “مرحبا بك يا محمودة”.
في مساء 21 أكتوبر، هبّت عاصفة رعديّة سوداء على العين الصّفراء، وتقطّعت قرب السّماء على الأرض، ثمّ جرت الوديان، والزّوجان ماكثان بالبيت، هرعا يسدّان الأبواب بالخشب ظنّاً أنّه سيل عابر، لكنّ السّيل العارم كان مثل الوادي الهادر، حاول سليمان أن يأخذها بيدها، لكنّها تلكأت بحثاً عن أغلى ما تملك حقيبتها اليدويّة التي جمعت فيها مخطوطاتها وأوراقها، وعندما استدار صرخ إذ لم تكن هناك، لقد تهدّم سقف المنزل والجدار، وجرفها فيضان الأمطار.
في دائرة عين الصّفراء من ولاية النّعامة، وفي بيت طيني متواضع، وفي مساء 21 أكتوبر من العام 1904 وفي سنّ 27 عاما جرف الفيضان إيزابيل بعد عاصفة اجتاحت البيت المترهّل.. ماتت إيزابيل وانتشلوا جثّتها، ودفنت في مقبرة بوجمعة، لكن حقيبتها المحشوة بالمخطوطات تولّى لاحقا مدير جريدة الأخبار فيكتور بريكو نشر البعض منها، مثل “في ظل الإسلام الدافئ” و”المسافر” و”ياسمينا” و”في أرض الرّمال” و”صفحات حول الإسلام” و”رخيل” و”عمّال النّهار”.
أعمال كثيرة تناولت حياة إيزابيل إيبرهارت، بين الكتب والدراسات والدراما والأشرطة السينمائية.