جارتي لويزة
منجي الفرحاني
عندما جئت لأسكن في بيتي هذا في قلب المدينة قبل جوالي عام، لم يكن لقاء التعرف إلى جارتي المسنة موفقا، قابلتني بجفاء كبير على بابها عندما دعوتها على فنجان قهوة مثلما يفعل الناس هنا عندما يريدون التعرف إلى جيرانهم، أجابتني بوابل من الأسئلة الركيكة أولها إن كان لي أطفال أشقياء سيقضون مضجعها وآخرها إن كنت متأكدا أنني الساكن الجديد؟
لم ألتقيها منذ ذلك اليوم إلا نادرا وكنت أبادرها بالسلام وأحارب نفسي الأمارة بالسوء التي تحرضني على الدعاء عليها بالصاعقة والوباء والفناء والحسكة..
ثم تمر الأيام ويأتي ابن أختي خليل لزيارتي لتفاجئني عند المصعد بالسؤال: أو لم تعدني بفنجان قهوة؟
قلت مازحا: بلى ولكنني اعتقدت أن الفكرة لم تعجبك حينها مما جعلني أكرهك أكثر من كرهي للكيان الصهيوني المحتل..
قالت: هناك علم ما على شرفتك كلما تحركه الريح يرفرف أمام نافدتي، هل هو علم بلادك الأصلية؟
قلت مازحا مرة أخرى: بلى، هو علم بلادي التي يحتلها الكيان الصهيوني الذي كرهتك يوما أكثر منه عندما قابلتيني بذلك الجفاء الركيك..
ثم على عكس الكثير من المسنين المتعاطفين بالوراثة مع الكيان، لم تكن جارتي لوزية مثلهم، أكدت أنها تعرف أن العلم علم فلسطين وأنها كانت تغيض به صديقاتها المتعاطفات مع الكيان حين يزرنها وتصفهن بمصاصي دماء الأطفال..
كانت لويزة بعد كل سؤال لا تنتظر إجاباتي بل تتحدث إلى خليل وتسأله مرة عن عمره ومرة عن شعره ومره أخرى عن سر شبهه بي رغم أنني كررت لها ألف مرة أنه ضيف ولا يتكلم لا الهولندية ولا الإنجليزية..
المهم.. دعوتها على فنجان القهوة المؤجل واتفقنا على العاشرة صباحا من اليوم الموالي وعلق ابن أختي الشقي: شبيها ما تجمعش العزا؟
وكانت في الموعد بفستانها الأخضر المزركش بحيوانات المحميات الإفريقية وشعرها الممشوط بعناية ونظاراتها الأنيقة وتجاعيدها التي قرأت فيها عدد سنينها وقلت في نفسي: لابد أنها في عمر أمي حفظها الله..
انبهرت بديكور الصالة واللوحات المعلقة على الجدران وانبهرت أكثر عندما عرفت أني صاحب الديكور واللوحات..
قلت ممازجنا: ماذا كنت تنتظرين سيدتي: خيمة وجواري وجمال؟
فضحكت حتى انقشع الجليد بيننا واطمأن قلبها..
على الطاولة كانت القهوة العربية جاهزة وكذلك صحن الصمصا التي جلبها خليل..
قالت: هل هذه صامصا؟
قلت: نعم، هل تعرفينها؟
قالت والفرحة تغمر وجهها: كيف لا؟ كنت أعشقها عندما أقمت أكثر من خمسة عشر عام في كينيا..
الآن عرفت سر حيوانات الفستان وسر جهلي بالحلويات.. في بالي الصمصا تونسية وخاصة بعم على الفطايري التطاويني هههه..
قالت إنها هي الأخرى كانت فنانة.. يعد كنت مفنية هاوية لسنين..
هل تريدني أن أغني لكما: قلت: طبعا.. فانطلقت دون أن تنتظر أن أعدل الهاتف لأصورها:
عند الشاطئ، هناك عند الشاطئ
قابلك أول مرة، هناك عند الشاطئ
سألتك هل ترغب في تقبيلي؟
هناك عند الشاطئ، هناك عند الشاطئ
سألتك هل ترغب في تقبيلي؟
هناك عند الشاطئ، هناك عند الشاطئ
بعد الغناء، عادت لتسأل خليل هذه المرة عن مقر سكناه في هولندا وعن مهنته..
ومرة أخرى قلت لها إنه ابن أختي وضيفي ولا يتكلم الهولندية ازححح..
ثم عادت من جديد لتسألني عن العلم ونسيت هذه المرة أنه لفلسطين وأنها متعاطفة مع القضية ونسيت أنا أن أفسر لها أن بن القهوة العربية يظل في قاع الفنجان فاجتنبيه، فرشفته حتى كادت تغص..
في كينيا، التحقت بزوجها الذي سبها إليه كمقاول طرقات وقنوات مائية قبل أن يطلقها قبل أربعين عاما من الآن ويبدلها بشقراء تصغرها بأكثر من عقد.. قلت: وهل سكت له؟
قالت بتحد: طبعا لا.. فقد مزقت ألبوم صور زواجنا وألقيتها في مزبلة التاريخ، أما رسائل الحب التي كانت بيننا فقد أحرقتها وألقيت برمادها في المرحاض وضغطت على زر الماء.. ولما لم يهدأ غضبي، كسرت كل صحوني وكؤوسي وفيلتي الجميلة المصنوعة من العاج التي أهدانيها فنان نحت كيني..
قالت دون مقدمات بعد أن كسرت كؤوسها والصحون على رأس طليقها غيابيا: يوم الثلاثاء القادم أحتفل بعيد ميلادي الثامن والسبعين وأنا أدعوك أنت وهذا الشاب الجميل للحضور.. أو لم أقل أنها في عمر أمي؟
قال خليل: غير أن ذاكرة جدتي أصغر عاد ها خالي..
قبل أن تغادر، فرحت كثيرا بصحن الصمصا عندما أهديته إليها شقف وسلعة.. الصمصا التي دغدغت ذكرياتها الجميلة…