نور الدين الغيلوفي
1. تخرج من بيتك في شأن لك تقضيه، ونظيرٌ لك في غزّة لا بيت له يخرج منه، ولا شأن له يقضيه.. لم يبق له ما يخرج منه ولا ما يذهب إليه.. كلّ همّه الباقي له أن ينجوَ بحياته بعد أن فقد جميع أهله في قصف عشوائيّ من عدوّه وعدوّك.. ذلك كلّ ما بقي له من أمره.. إذا طلع النهار لم يضمن بقاءه إلى الليل.. وإذا جنّ الليل لا يدري إن كان سيرى في غده أهوال ما هيمن من خراب.. أو بقيَ في مرمى عينه ما ترى من دواعي الحرص على حياة.
2. إذا أدخلتَ يدك إلى جيبك تتحسّس المفتاح لتفتح به باب بيتك تخرج منه لتعودَ إليه، فإنّ في غزّة نظيرا لك لا جيب له يتحسّسه ولا مفتاح يجده ولا باب يفتحه.. ولا بيت يأوي إليه.. كلّ المكان خراب.. وكلّ الأهل رحلوا.. بقي وحده لا يفتّش عن شيء.. ولم يبق له شيء يفتّش عنه.. في غزّة حوله خواء عظيم.. وخلاء.. لم تُمحَ عائلات وحدها من السجلّات.. سُحقت أفعال ومشاعر وأهواء وميولات…
3. تعود إلى البيت فتلقى زوجك مغاضِبة أو راضية، ويرتمي في حضنك أطفالك ترى في عيونهم جذل البنوّة بالأبوّة، وغيرَ بعيد عنك، في أرض العرب، نظير لك وشقيق خرج يبحث عن رغيف يطعم به ابنه الباقيَ الوحيدَ.. قصفته طائرة مسيَّرة فتناثرت أشلاؤه وأصاب صاروخ البيت في الناحية الأخرى فوقعت الأنقاض على الطفل الجائع الوحيد.. أظلمت الدنيا في عين الصبيّ.. لا يجد يده يتحسّس بها بقيّة أطرافه ولا يدري إن كان يشعر أو يرى أو يفهم.. ولا صوت له يرفعه فوق الخراب ليأتيَه من يرفع الأنقاض عنه. قُصفت الذاكرة ومات الحس وضاعت المشاعر.. كتلة لحم في الظلام تستهلك أنفاسا باقية قبل أن تغادرها الحياة.
4. تذهب أنت إلى طبيب العيون تطلب موعدا لفحص عينيك ولتغيير نظّارتيك، وتعود من عيادته مغاضِبًا لأنّ قائمة المواعيد امتلأت وعليك أن تعود في يوم آخر لترتيب موعد يليق بك يرضاه لك الطبيب، وأنت شخص يضيق بالانتظار فتسبّ ما شئت من المسبوبات وتلعن ما طابت لك اللعنات.. وهناك في غزّة قُصفت العيادة وارتقى الطبيب شهيدا وفقد المريض عينه الأخرى ونُسفت قدماه اللتان يفتّش بهما عن طبيب.. قبل أن تمرّ عليه دبّابة سحقت بقيته… وأنت ترى كلّ ذلك على شاشتك تطلب تعديلها لترى “على كيفك”.. تراه، بنظّارتيك اللتين ما عادتا ترضيان ولعَك بالأشياء.. ترى كلّ ذلك عيانًا أو حكايةً وأنت تشرب شاي غدائك وترقب فرح زوجتك بهدية حبّها في يوم عيده.. وتدسّ روحك في الرضا وتنام قرير العين من شبع ومن دفء وسلام.
5. أنتِ، هنا، يستبدّ بك الضيق.. لم ترضك هديّة عيد حبّك من محبوبك.. عطرك السينيي نفد من السوق ولا عطر غيره يليق بأنفك العالي ككعبك.. وحِسان غزّة يتدرّبُ على قنصهنّ الجنود فتتعطّر الناجية منهنّ بدمها المسفوك وبرائحة تنبعث من جارة لها ارتقت إلى السماء وتركت جثمانها لم يجد من يواريه التراب… الموتى عطور الناجين بغزّة.
6. نحن قابيل الذي قتل أخاه بصمته وقهره بعجزه ونكّل به بفشله ومثّل به بتركه.. هابيل يموت أمامنا مرّتين، مرّة بسلاح العدوّ ومرّة بجميع أعمالنا.. ولا من غراب في الأنحاء يُري القاتل منّا كيف يواري سوأة أخيه.. في هذه الحياة، المتقبَّل يموت والآخر يبقى.. لحصاد اللعنات.
7. أيّتها السماء..
أسندي إلى كلّ فرد منّا وفردة حكم
“يفسد فيها ويسفك الدماء”.
ولا تغيّري شيئا.
وعاقبينا بما نستحقّ.