حكاية الضبع وأعوان الدولة
كمال الشارني
عن حكاية الضبع الماعز: أنت أرجل واحد فيهم؟
هاكه العام، يجب أن يكون 1980، كان عندنا مساعد قيم عام داخلي لقسم المبيت في المعهد الفني بالكاف نسميه “الكبش” لكبر صنتوحته (جبهته)، كان صعب المراس في معهد كان مدينة بحالها لكبره في حالة حصار، احتججنا على ظروف المبيت ونوعية الأكل الفاسد وسكبنا اللوبية القارصة وقذفنا القيمين والعمال بالبرتقال المتعفن.
عاد “أنا ماني ضبع ريفي ماعز أصلا، أول من يحصل”، فقد شدني “عساسة الليسي” سريعا وجروني إليه من عنكوشي مثل الخروف يحملونني “بين هواء وفضاء” قال لي بدهاء الخداع: “اشبيكم؟ اش تحبوا؟”، قلت له (كما لو أني ناطق رسمي باسم الحراك): “الماكلة خايبة وخامجة والماء البارد قتلنا في الشتاء و…” كان ينظر إلى السماء احتقارا لي: “آها؟ وأنت أرجل واحد فيهم؟”، وبناء عليه، لطمني أحد العساسة على فمي وأنفي حتى سال الدم، الذي ضربوه لم يكن فم المراهق الريفي الحالم، بل النيف والكرامة والكبرياء والقدرة على قول الحقيقة، هي أن تخرج من وسط القطيع لكي تتكلم بما تؤمن به دون أن يقطع أحد رأسك الفكري والأخلاقي، لكن وقتها ضربتني أول رعشة جبن في حياتي بعد حادثة الكلبة التي افترستني من ساقي، رعشة لم تسعفني لكي لا أكون “ضبعا، أول من يحصل” ولا أن لا أكون شجاعا إلى درجة التهور، لذلك كنت أول من يأكلها سريعا ووحدي، فيما يهرب الباقون، الأوقات الصعبة التي عشتها لم تكن بسبب خيارات نضال بقدر ما كانت وجودي في المكان الخطأ في الزمن الخطأ. إنما كان عليّ أن آكلها وحدي، دائما.
أعوان الدولة
المهم حكاية “الماكلة الخايبة” انتهت بقضاء ليلة عند الرهيب “عبد ربه” وكان من جماعة الشرطة العدلية في مدينة الكاف، وقد أكل لنا قلوبنا، أنا وثلاثة تلاميذ آخرين بالضرب حتى منتصف الليل بالزلاط والبونية والركل دون اعتبار الشتائم والإهانات والجوع تحت شعار “أنتم أرجل منهم؟ هام بايتين في ديارهم وأنتم هنا”، وفي آخر الليلة، بكيت حقا لأني فكرت في أمي، رحمها الله التي دفعت ماء عينيها لكي أدرس وأبي الذي حملني على كتفيه من دير الكاف إلى مدرسة ملاق العدائية وقال لحارس المدرسة “سي محمد القهواجي” رحمه الله أن يذبحني ويحاسبه بجلدي حتى أني كان يخيل إليّ في أوقات كثيرة أنه لم يبق مني سوى الجلد وهذه الروح المقاتلة التي نجت من الفيضانات والذئاب التي أكلب صديق طفولتي “جمال ولد جفال” والبوليسية والقوادين الذين تداولوا علينا منذ عبد ربه والسجون التي تقتل فيك حتى حبك للصباح الذي يعني فقط الامتثال لإحصاء المساجين وسط الإجراءات المعقدة للسلطة ليبينوا ما إذا كنت على قيد الحياة بعد أن تأكدوا من نفاذ قدرتك على المقاومة.
كان ذلك العام الذي ضعت فيه حقا وضيعت طريقي، السخيف هو أني عدت بعد ذلك إلى “عبد ربه” مرتين في 1982 وفي 1983 قبيل أحداث الخبز، وأكل لي قلبي بالضرب بكل أنواعه مذكرا بأول مرة جئتها إليه وقال لي إنه سيحدث لي إعاقة دائمة إذا جئته مرة أخرى، وعندما هددني حاكم التحقيق في محكمة الكاف بالعودة إلى عبد ربه في 17 جانفي 1986 وأن أدخل مكتبه وساقي تسبحان في الدماء والقيح إن لم أمض على اعترافاتي عند شرطة تاجروين، “ستبيت في مركز بن عنين وسنرى غدا ما إذا فهمت”، اخترت الإمضاء بما أدى بي إلى حكم بخمسة أعوام سجنا، الآن أرى أنه لو قتلني عبد ربه تعذيبا لكان أقل خسارة، على الأقل عاطفيا.
قبلها، في عام 1984، أعدت حماقة الضبع الماعز نفسها في مبيت المعهد الثانوي “النورمال” حين احتججت على رداءة قهوة فطور الصباح، وجدت نفسي في قلب حركة احتجاج عفوية، قال لي “سي بعو” رحمه الله وكان قيما عاما للمبيت: “ما تكلمت كان أنت؟ أنت أرجل واحد فيهم؟”، أيا كان العقاب وقتها فقد أطردت من المعهد الثانوي المختلط لأني أنا والحبيب الشارني سرقنا الفلفل الأحمر الحار الذي كان منشورا على سور دار في حي الصخرة ووضعناه في عيني أحد زملائنا في الليل في المبيت انتقاما من علاقته مع الإدارة، وهي حادثة لا يمكن الافتخار بها أبدا ولا تصنيفها في أي باب من أبواب النضال، قادتني إلى الرحيل عن مدينة الكاف التي أحبها إلى تاجروين، حيث العزلة والحب المرير من جانب واحد والوحشة ثم السجن لثلاثة أعوام، “يا دين السماء”.
عاد سي الكبش شبع موتا وكذلك عبد ربه، التقيت “سي بعو” صدفة بعد تقاعده عام 1990 وهو يغادر جامع الرحمة في مدينة الكاف وعليه كل علامات الخشوع والسلام، سلمت عليه فلم يعرفني، قال لي: “أنت من الشرطة؟” قلت له: “لا، من ضحاياك السابقين، من ضحايا الشرطة”، فلم يلتفت لي أصلا وانصرف يتلمس طريقه بعصاه إلى الله، لأنه مات بعد ذلك بقليل.
ماذا يبقى اليوم؟ سعي أعوان الدولة إلى خصي كل من يتحدث باسم الشأن العام، “تآمر، خيانة، عمالة للأجانب، أنت أرجل واحد فيهم؟” من أجل بديل واحد، رواية جورج أوروال: 1984، أن تأكل خبزتك مسارقة، أن تحني رأسك، أن تقول “لا والله، أنا خاطي”، لست أنا، لست معهم، لا علاقة لي بهم، أنا أمشي الحيط الحيط، لكي لا أزعج أحلام من هم في السلطة، “لست أرجل منهم”.