أدب السجون: تجربة السجين الليبي عمر أبوالقاسم الككلي

عبد السلام الككلي

ارتبط أدب السجون في الوطن العربي بظاهرة القمع في الدّول المستقلّة. فما إن تخلّصت الشّعوب العربيّة من الاستعمار المباشر وبدأت في بناء دول وطنية تنعم فيها بالسّيادة والحرّيّة حتّى أصبح حكّامها طغاة يكمّمون أفواه المعارضين ويقمعون حرّيّة المثقّفين ويُلقون بالمناهضين لحكمهم في السجون.

والنماذج الّتي صوّرت هذه الظاهرة كثيرة، ومن أهمّها، «تلك الرّائحة» و «يوميات الواحات» لصنع اللّه إبراهيم، «الوشم» لعبد الرحمان مجيد الربيعي، «الكرنك» لنجيب محفوظ، «شرق المتوسّط» لعبد الرحمان منيف، «تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلون… «مذكرات من بيت الموتى»، أو «المجموعة 778″ لتوفيق فياض، «السجينة» للمغربية مليكة أفقير وكتابات عبد القادر الشاوي من المغرب أو رواية «القوقعة» للسوري مصطفى خليفة.

أما في تونس وقبل الثورة وفي عهد بن علي، ظهرت كتب استعاد فيها كتابها تجاربهم السجنية. ويعد كتاب فتحي بن الحاج يحيى «الحبس كذاب… والحيّ يروّح»: ورقات من دفاتر اليسار في الزمن البورقيبي، وكتاب «كريستال» لجلبار النقاش أهم ما صدر تلك الفترة.

بعد الثورة تتالت الشهادات السجنية من العلمانيين والإسلاميين، وأمكن إعادة نشر بعض الأعمال المهربة والمنشورة بالخارج مثل «برج الرومي» لسمير ساسي المنشورة بعنوان «البرزخ» في لندن و «أحباب الله» لكمال الشارني، أو «في القلب جمرة»: في سجون بن علي لحميد عبايدية. وتجربة «مناضل رغم أنفه» لعبد الجبّار المدّوري في نسختها «السريّة» والتي تغير عنوانها ليصبح «مناضل رغم أنفك» في نسختها الأخيرة.

تمكّن النظام السابق من حجب العديد منها ولكن نجحت الثورة في إخراجها الى العلن. هذا النوع الإبداعي بدأ يفرض حضوره القوي في تونس كجنس أدبيّ جديد بعد هذه التجارب.

غير أن بعض التجارب بقيت مجهولة نسبيا لدى القراء التونسيين خاصة منها تجربة الكاتب والسجين السياسي الليبي عمر ابو القاسم الككلي وننشر هنا لأول مرة نص المحاضرة عن أدبه التي ألقيناها بحضور الكاتب في كلية الآداب بمنوبة في ربيع 2014.. ويأتي نشر هذا النص لأول مرة في سياق هذا الجدل الذي ثار هذه الأيام بعد صدور كتاب احد مغنين الذي لا أرى من فائدة الآن على الأقل للحديث عنه وافضل في هذا السياق التعريف بنموذج من التجارب الأصيلة في هذا الجنس الذي يبدو أن كثيرا من التونسيين لا يعرفون منه غير بعض الكتابات التونسية الأخيرة وبعض المؤلفات العربية الأكثر شهرة.

عمر الككلي في سجن القذافي

القاص الليبي «عمر أبو القاسم الككلي» أحد الأسماء البارزة في المشهد القصصي الليبي، وبرغم قلة أعماله المنشورة إلا أنه استطاع من خلالها أن يكون اسما بارزا ومميزا في الحياة الثقافية الليبية، قضى في ما يقارب الـ 10 سنوات في سجون نظام معمر القذافي، وخرج محمل بتجربة السجن ليقدم من خلالها معالم تجربته حول المعتقل والتي جاءت بعنوان «سجنيات».

صدر الكتاب عن دار فرجاني سنة 2012 ويحتوي على حوالي ثمانين صفحة هي عبارة هي نصوص سردية- قصصية تلتقط لحظات ومواقف بسيطة وهامشية، عن الكاتب وعن آخرين في السجن، بعضها يدفع إلى الإبتسام، وبعضها يثير الشجن والأسى، وبعضها الآخر جارح موجع، لكنها في كل الأحوال تنطوي على طبقات من الدلالات التي تستفز ذائقة المتلقي وتستحثها على حد تعبير محمد الفقيه صالح صديق الشاعر. كما يجد القارئ في أخر هذه النصوص تقديمين له: الأوّل بقلم الناقد والشاعر اللّيبي محمد الفقيه صالح رفيق الكاتب في السجن والكلمة الجميلة كذلك، والثاني بقلم الناقد اللّيبي سالم العوكلي، وقد وردا في خاتمته وليس في فاتحته، ولا يقلان متعة ومؤانسة عنه.

ليس كتاب سجنيات كتابة في السجن بل هي كتابة عن السجن فهي إذن مادة صنعها الاستذكار والاستحضار للوقائع السجنية على مدى عشر سنوات. ولا ريب في أن الفضل في دقة استحضار تلك الوقائع السجنية رغم بعد الصلة بين زمن وقوعها وبين زمن الكتابة إذ تتراوح المدة ما بين عشرين وثلاثين سنة إنما يرجع إلى الذاكرة القوية الحاضرة التي كان وما يزال يتمتع بها عمر الككلي والتي كثيرا ما كان زملاؤه ورفاقه يحتكمون إليها داخل السجن وخارجه كلما شجر خلاف حول ما قاله بالضبط هذا الشاهد أو ذاك أو ما حدث على وجه التحديد في هذه الواقعة أو تلك أو ما حف بتلك الوقائع والأحداث من ظروف وملابسات ومواقف وشخصيات. فالسجن إذن في هذا الكتاب لحظة مستحضرة وليست لحظة معيشة بحسب شهادة الناقد الليبي محمد الفقيه صالح.

من الصعب تصنيف هذا النوع من الكتابة فلا هو رواية بشخوص وحبكة وتطور وعقدة وانحلال للعقدة ولا هو قصة قصيرة بذروة وسقوط إنها قطع صغيرة متراصة هي عبارة عن لمحات ولمع تحملك إلى ذكرى بعينها أو رسائل كتبت إلى رجال لا نعلم عنهم غير الحروف الأولى من أسمائهم وأحيانا أخرى الى أناس بعينهم هم بلا شك أصدقاء المعتقل كما هو الأمر مثلا الرسالة إلى خالد الترجمان منسق الاتصالات بين القسمين الثالث والرابع في السجن. تحتكم هذه الشذرات إذا صح القول إلى منطق حر وتخضع نسبيا إلى التسلسل الزمني فهي تبتدئ بالاعتقال وتنتهي بإطلاق السراح ولكن في هذا الإطار تتحرك الكتابة دون قيود، دون أن يتحكم فيها منطق التسلسل والتراتب. هنا لا صدر ولا لاحقة تعمل الذاكرة داخل زمن الكبت والضيق وعسر التنفس وفي مناخ العفن الملتصق بالجدران والعالق بالأجساد التي قليلا ما تلامس الماء بحرية. لكأنها تريد أن تنتصر على زمن الحكاية الرتيب الممل الخانق تستعيض عنه بزمن الكتابة الحر الذي ينقلك من لحظة إلى أخرى ومن وجه إلى أخر بل ينتقل بك بين أوقات مكثفة مكتنزة متلاصقة ولكنها أحيانا متضادة متناقضة تحملك وأنت مأخوذ بسلاسة اللغة وبساطة الأسلوب وعمق الروح الإنسانية التي تعبق من كل حرف تحملك بين لحظات الحزن والكآبة والتراجيديا الإنسانية وهي تقاوم الصخر الذي صنعته يد الجبروت ولحظات الفرح الطفولي الذي يتولد عن رؤية عصفور يدخل الزنزانة أو رؤية شجرة تنبت في ساحة السجن لتذكر الأحياء من شبه الأموات في السجن أن الحياة عنيدة مخادعة وانها لا تستسلم بسهولة. أنها تظل تقاوم الى حين تجد لنفسها مكانا تفتكه من قطرة ماء واحدة نزلت على ارض طيبة افلت من فعل الإسفلت البارد العقيم. وأنت تقرأ الكتاب لا يمكن أن تفلت في كلّ جملة من هذه الجدليّة الوجوديّة القاهرة: الموت والحياة الحزن والفرح التفاؤل والتشاؤم الأمل واليأس ولكن الأهم من كل ذلك انك تدرك كما أدرك ذلك عمر نفسه أن الأمر الصعب هو أن يتجنب السجين الصدام مع حالة السجن باعتبارها خليطا من هذه الحالات مجتمعة لان ذلك سيؤدي كما يقول الكاتب إما إلى الجنون وإما الى الانتحار كما لا ينبغي بالمثل أن يسمح السجين لنفسه بمهادنة السجان وجلد الذات والتسليم بان السجانين محقون في فعلتهم هذه لان هذا مسخ للذات وخراب للروح يمثل انتحارا معنويا قد يؤدي هو الآخر إلى نوع من الجنون وإنما ينبغي الانخراط مع المعتقل في عملية مداورة نشطة ويقظة يتم فيها تفادي الاشتباك المباشر وتجنب الوقوع في كمائن الزنزانة. ومن عناصر هذه المداورة الاقتصاد في التفاؤل والتشاؤم لأنه ما من شيء يجر السجين الى الهلاك الحتمي كالإفراط في الأمل أو الإغراق في القنوط. على السجين أن يتعلم النجاة بذرات صغيرة: قليلا قليلا مرة مرة كل اليوم وكل ليلة. اذكر من بعض نصوص جون بول سارتر تلك الإستراتيجية العجيبة التي كان يطبقها السجين الخاضع إلى حصص التعذيب يقول في كل لحظة «سأصمد لحظة أخرى» إلى حين يأتي الخلاص والخلاص يأتي حين تحين لحظة الإغماء اللذيذة كلحظة تبنيج. هي خلاص الجسد من الشعور بالألم وخلاص الروح والعقل من محنة النزول إلى درك الاعتراف التي تهلك روح السجين وتقود كثيرا من رفاقه إلى الهلاك أيضا سواء ممن سبقوه الى المعتقل وخاصة ممن هم خارجه ويتعرضون إلى التفتيش والملاحقة. هذه المحنة المتكررة عبر لحظات الاستنطاق وحتى بعدها اثر صدور الأحكام، لا أحد قادر على صدّها ما عدا الموت المريح، والتي قد لا تراها في أبهى صورة لها وأبشعها إلا في محنة المحن، في السجون ومحتشدات الاعتقال والتنكيل والغصب والقهر: “الموت على مشارف الحياة والحياة على مشارف الموت والقبح حذو الجمال بل ضمنه وفيه، والعكس بالعكس في صيرورة لا تنتهي”.

لا استطيع هنا مثل كثيرين من النقاد الذين كتبوا عن سجنيات عمر الككلي إلا أن استحضر في كثير من اللذة الحزينة نص «رقصة تجديد الهواء في السجن»، يتأمل القارئ المشهد لوحة درامية مكثفة موحية رمزية تكاد تختزل كل شيء في السجن وفي روح السجين. يقول عمر الككلي: «في الصيف، حين يأسنُ الهواء في الزنزانة ممتلئا بروائح الأنفاس والعرق، ويثقل التنفس قليلا، وكدر النفوس يزداد، «ينهض اثنان ممن في الزنزانة، يمسكان فيما بينهما ملاءة بيضاء ككفن الميت وراية المستسلم، ومعاطف الممرضين والأطبّاء، وثوب العروس، وزهور الياسمين والبرتقال، وبياض العين الحوراء، ويأخذان بهزها كما لو كانا ينفضان ما علق بها من غبار». هكذا يتجدد الهواء في مكان الاختناق والعتمة وهكذا تجدد روح المقاومة التي لا تلين. ما يدهشك في كتاب سجنيات أيضا لعمر الككلي خلوه من خطب أو نقاشات ذات طابع سياسي أو أيديولوجي أو أية حذلقة فكرية فلا حديث في السياسة قليلا أو كثيرا لان السياسة هنا حاضرة حضورا رمزيا إيحائيا عبر أدواته ووسائله والسجن في ليبيا يشبه سجن القذافي في جزئياته السوداء المقيتة. السجن في ليبيا حكاية أخرى.

تجربة السجن في تونس

أضحت تونس في عهد بورقيبة وخاصة في عهد بن علي سجنا كبيرا انكسرت فيه الأحلام والآمال ولكن رغم ذلك نشطت الذاكرة 2 ففي المعتقل تخصب الذّاكرة ليسجل السجناء فترات من حياتهم قاسية وسنوات من أعمارهم مرّت في العتمة.. غير أن ما يلفت الانتباه في تجربة السجن التونسية أنها اصطبغت بطبيعة النظام في تونس. لقد صادقت الحكومة التونسية على اتفاقية مناهضة التعذيب عام 1989، وأصدرت قانونا للسجون قبلها بعام واحد، وهو مستوحى من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، إلا أن تلك القوانين لم تشفع في نهاية الأمر للتونسيين. إذ أن كل فرد كان يدخل مركز الشرطة للتحقيق معه في قضية كان يمارس عليه العنف بصفة وحشية، وكانت وتيرة التعذيب تزداد وكأنه أمر مقصود، على رغم محاولات التصدي لهذا الأمر من قبل بعض الجمعيات. كان النظام في تونس في الداخل وفي دعايته في الخارج التي كان يشرف عليها كهانه وزبانيته من الإعلاميين والمثقفين المدفوعي الأجر بسخاء يتشدق باحترامه لحقوق الإنسان ويدعي انه يلتزم بمدة الاحتفاظ وهي حق السجين في إعلام أهله باعتقاله وحقه في محام عند وقوفه أمام قلم التحقيق المدني إلا في حالات نادرة يقع الالتجاء فيها الى المحاكم العسكرية كما كان يتبجح بانه يحترم الحد الأقصى لمدة الإيقاف التحفظي وهي 14 عشر شهرا كان الحق في الزيارة محترما عموما والحق في القفة بل اكثر من ذلك إذ حكى حمة الهمامي السجين السياسي القديم انه تعلم الطبخ في السجن وان علاقتهم الطويلة في السجن جعلت من بعض السجانين أصدقاء تقريبا. نحن نعرف بلا شك أن كثيرا من هذه الإجراءات لم يكن محترما فالسجين يختطف ولا يعلم احد باختطافه إلا بعض مدة وهكذا يتمكن النظام من ربح أيام إضافية على فترة الاحتفاظ القانونية كما كنا نعرف أن التعذيب يمارس حتى بعد صدور الأحكام وهو الشيء الذي يجعل إدارة السجن ترفض الزيارات إلى حين اختفاء آثار التعذيب نعرف أيضا الحبس الانفرادي الذي تعرض له السجناء من الإسلاميين خاصة على مدى يصل إلى عشر سنوات أحيانا بحسب الشهادات التي قدمها السجناء القدامى. لكن نعرف أيضا أن السجين كان لا يسمح له بحضور جنازة احد أفراد العائلة من الأصول في حالة وفاة احد منهم. ولكن السجن في تونس يبقى في كثير من الحالات اقل قتامة من السجن في ليبيا.

هناك لا قانون ولا إجراءات لا احتفاظ ولا مدة قصوى للإيقاف. هناك بين الزيارة والزيارة تمر سنوات من العزلة والحنين واللحظات التي صورها عمر للزيارات مؤلمة ومأساوية. هناك كل شيء يسير على وثيرة نظام بشع ألغى الدولة والقانون والمؤسسات ونشر الخراب والجهل في كل مكان. كنت أعاين كل ذلك بنفسي في زياراتي القليلة إلى طرابلس ومن خلال زيارات أفراد عائلتي الذين يحمله المرض الى مستشفيات تونس. وببساطة واقتضاب شديد يمكن تلخيص كل هذه الصورة في واقعة سجن بوسليم التي تعفينا من كثرة الكلام في هذا الموضوع. فقد كشف المستشار محمد بشير الخضار، آخر مدعٍ عام عسكري في نظام العقيد الليبي معمر القذافي، أن نظام القذافي استعمل القوة ضد سجناء في سجن بوسليم الذي كان يكتظ بالآلاف من سجناء الرأي عام 1996.

وقال الخضار، في تصريحات بالقاهرة إن «حوالي 1267 من السجناء استشهدوا ودفنوا في أماكن لا يعرفها احد».

وقعت مجزرة سجن بوسليم عندما داهمت قوات خاصة في التاسع والعشرين من جويلية 1996 سجن بوسليم الواقع في ضواحي العاصمة طرابلس، وأطلقت النار على السجناء بدعوى تمردهم داخل السجن الذي يعد الأكثر تحصينا وحراسة في ليبيا ثم قامت تلك القوات بدفن الجثث في مقابر جماعية متفرقة في ضواحي طرابلس ذلك هو السجن في ليبيا أما عن حلالات الإعدام فانا لا انسى مثل غيري ممن يتابعون مجريات الأحداث في ليبيا عن عمليات الإعدام الجماعية التي كانت تجري في ملاعب الكرة وأمام الجماهير التي كانت تجبر على مشاهدة السلطة التي لم تعرف يوما منطق الدولة.

أخيرا تظلّ ليبيا في ذكرياتي ووجداني من جبال ككلة الشاهقة وقد ترك فيها أهلي بعض شجرات الزيتون المتناثرة عند رحيلهم من هناك الى العاصمة تونس في سنة 1908 واستقرارهم في منطقة راس الدرب في ربض باب جديد الى كرنيش طرابلس الذي كنا نجوبه ونحن نتحدث عن فظاعات نظام القذافي نظام الجهل والاستبداد تظل ليبيا جميلة رغم كلّ شيء وستكون كذلك مادامت قد أنبتت مبدعين مثل أخي وصديقي عمر الككلي. لم يترك عمر لبروتوكول التعارف أيّ فرصة في أول مرة تحدثت معه فيها بالتليفون ونحن نفكر في إمكانية اللقاء في تونس بدأنا بالنهايات وتركنا بدايات التعارف القريب لأول لقاء هو جزء من لقاء قديم قوامه المكان الذي احمله مطبوعا في الهوية ومتجددا عبر الكلمة المقاومة التي لا تموت.. شكرا عمر فقد مكنتني من نص لذيذ ولقاء ممتع أرجو أن يتجدد.