نور الدين الغيلوفي
تنويه: هذا النصّ ليس في تمجيد شخص راشد الغنوشي، بل هو في الدفاع عن حرية وطن.
1. كُتب على هذا البلد أن يعانيَ ويلات ظلم حالك يمنعه من التقدّم ويحجب عنه النور.
الدولة، يعلم القائمون عليها أنّ الظلم خرابٌ للعمران ويردّدون ذلك ضمن محفوظاتهم، ويدركون أنّ الحاكم الظالم قد يحقّق بعض الإشباع لشخصه ولحاشيته الغرائزيّة، ولكنّهم لا يرقَون إلى أن يفهموا أنّه شبَعٌ سريع الزوال ينقضي بانقضاء عمر الكرسيّ، إذ لم يدم كرسيٌّ لمن جلس عليه.. يمضي الحاكم ولا يبقى منه غيرُ بقعة سوداء تشير إليه، هي بقعة ظلمه تمنع ثوب الوطن من نقاوته.. بقعة بيّنة تصلح مُعْتَبَرًا لمن يمرّ بها.. والمعتبِر، في الحاكمين، قليل.
2. راشد الغنوشي عاش عمره يعاني من ويلات الظلم دون أن يرتكب ما يجعله أهلا لما يجري ضدّه.. بل كان لا يقول إلّا خيرا ولا يفعل إلّا مفيدا في إطار ما يُقدّره ويَقْدر عليه، يصيب ويخطئ مثل غيره من بني الإنسان.. ولا أظّن أحدا يملك حجّة عليه يدينه بها.
3. غير أنّ اللغة العربيّة إذا جرت على لسان راشد الغنوشي وظّفها الوظيفيّون قليلو الفهم وسيّئوه ضدّه تهمةً وحملوا المحاكم على أن تأخذ بقاصر فهمهم وتنزل عند مضيق صدرهم.. ألم ترَ كيف أنّ عبارة تجري على لسان الرجل يقولها أمام جميع الناس تنقلب بآلة الفهم المريض إلى تهمة تكلّفه السجن؟ وما أثقل الكلمات التامّات على هذا البلد، ولو كانت من كَلِم الله في قرآنه.
فإذا كنت قارئا للقرآن وبلغتَ من قراءتك آية الكرسيّ فاخفض صوتك وحاذر، وأنت تتلو الآية بعدها، أن يمرّ بك أحد هؤلاء فيسمعك فيرفعك إلى قاضٍ يقضي عليك بفهمه.. وتلقى مصير الغنوشي.
4. راشد الخريجي الغنوشي علَم من أعلام تونس ظلمته الدولة الوطنيّة في كلّ مراحلها الثقيلة، وما المرحلة في الدولة العربية غير عمر القاعد على الكرسيّ فيها.. والقاعدون على الكراسي لا يحبّون الغنوشي لأنّ جلوسه بجنبهم يشعرهم بالتلاشي.
5. ظلمه بورقيبة وأودعه السجن وحكم قضاؤه عليه بالإعدام، وبقي صامدا لا ينحني، ومن داخل سجنه كتب كثيرا من أفكاره واستنار بعقله وأنار به عقولا.
6. وظلمه بن علي رغم تواضعه له ورغم حرصه على فكّ الاشتباك بين حركته وبين الدولة، ولكنّ بن علي استعان عليه باليسار والقوميين ونكّلوا، معًا، بأبناء حركته كما لا تفعل دولةُ احتلالٍ بشعب احتلّت بلادَه.. وكان ربع قرن من حكم بن علي محرقة للبلاد كلّها لم ينج من نارها المستعرة غير الوطد والقوميّين.
7. عاد راشد الخريجي الغنوشي سنة 2011 من منفاه بفضل الثورة ولم يحدّث نفسه ولا أحدَ من منتسبي حركته حدّث نفسه بالثأر من أحد من الذين ظلموهم.. ولقد بلغت الوقاحة ببعض الجلّادين أن ظهروا على الشاشات يتبجّحون بجرائم التعذيب التي كانوا يرتكبونها ضدّ المساجين الإسلاميين، والقوانين الدولية تقول إنّ التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم.. ظهر الجلّادون، بكلّ وقاحة يتبجّحون بما يدينهم بشرائع السماء والأرض ولم يعترض طريقَهم أحدٌ.
8. وظلمه المستفيدون من الثورة عندما طاردوه في أقواله وحاصروه في تحرّكاته وأحصوا عليه كلماته وعدّوا عليه أنفاسه وأمعنوا في التنكيل به، ولم تسلم من تنكيلهم خِلقتُه التي خلقَه الله عليها كما لو أنّهم عُجنوا من طين غير طينه، وكما لو أنّ خِلقاتِهم آيات على جمال خَلقٍ خصّهم الله به.
9. وظلمه زعماء ظلّوا يصرّون على ألّا يروا فيه غير عدوّ وتبعهم في ذلك غوغائيّون كانوا يرمونه ببذاءاتهم من مستنقعاتهم.. وكان هو يعضّ على جراحه ويتعالى تعاليَ فارس شهم رمت به مقادير الحياة بين قوم لا يملكون عيارا يقيسون به مقادير الرجال. ولو عرفوا مقادير الرجال لتعلّموا لغة تقديرهم.. ولو كان في هذا البلد ميزان لحظِي الغنّوشي بأثقل الموازين حُسنَ أقوال ونافعَ أعمال.
10. بل ظلمه أبناء له من منتسبي حزبه تربّوا على يديه وتعلّموا من كتبه.. وتطاولوا عليه وولغوا في عرضه ودمه ولم يراعوا فيه علمه ولا قدّروا نضاله ولا احترموا شيبته.. ناصبوه العداء لأنّهم طمعوا في احتلال مكانه قبل زواله. ولقد سمعتُ من بعضهم في وصفه كلاما مقذعا لا يليق بقائله فضلا عن المقول فيه.
11. جميع هؤلاء ظلموا الغنّوشي ولم يدّخروا في ظلمه جهدا لهم استطاعوه، ولكنّه، على دمه الحامّيّ الحامي كان، دائما، يصبر على الأذى ويدفع بالتي هي أحسن.. غير أنّ أحدا من هؤلاء الملبوسين بعداوتهم، بلا استثناء، لم يكن قادرا على أن يكون الوليّ الحميم.
ولأنّ جميع هؤلاء قد ظلموه فلن يكون مستغرَبا أن يظلمه انقلاب يرى فيه وفي اسمه عقبة في طريقه.
12. الحرب على الغنّوشي في مراحلها المختلفة لا تُفهم إلا في صلتها بما يمثّله الرجل. فشل جميع الذين حاربوه في أن تكون لهم مكانة رأوها له دونهم.. وقد صعد مدارج الزعامة خطوة خطوة حتّى حَظِي بالاحترام خارج تونس وداخلها. حَظِيَ الغنّوشي بتقدير العارفين بالأقدار من مفكّرين وسياسيين ومن زعماء هو لهم نظير، في حين منعت الضحالة أهلَ الحقد عليه من أن يناظروه. ولمّا قصرت بهم أعمالُهم عنه تطاولوا عليه وأمعنوا في التنكيل به لأجل إيقاعه من عليائه.
الحرب ضدّ الغنوشي ليست قانونية ولا هي سياسية، إنّما هي حرب نفسية من قوم لا شغف يسكنهم أكثر من التنكيل بالكبار و”تطييح قدر” المحترَمين.
13. الغنوشي سار في طريق الكبار، وطُرق الكبار أشواك كلّها. وحدهم المنحدرون تسهل لهم الطريق حفّوها بأهوائهم وما يحقدون.. والأحقاد مانعة أهلها من صعودٍ.
الغنوشي سار في طريق سار فيها من قبله الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي يناظره وسار فيها أبو القاسم الشابّي مات طفلًا من رهافة حسّه وسار فيها الطاهر الحدّاد، وهما دونه.. هؤلاء جميعا نجوم لم تُرَ في حينها.. ثمّ استضاء العابرون بنورها بعد أن غادرت مواقعها العالية.
14. الغنوشي عاش عمرا مديدا وصار علَما لا يقترب منه النسيان وقد جعل له في التاريخ مسربا لا يضِلّه سالكو طرق العقول، ولا خشية عليه.
عاش الرجل عمرَه شاهدا على عصره، ولعلّ عمره يستقرّ به شهيدا حُسنَ جزاء له على ما قدّم في حياة عاشها لم تكن له.. ولا أظنّ مثله يكره لنفسه شهاده ترفع مقامه، ولا أظنّ الشهادة إلا من سيدات أحلام الرجل.
15. الغنوشي الذي يقترب من التسعين يبلغها يودَع سجنًا أُعدّ له ولمن كان مثله من أنصار الحرية الحالمين بوطن لا ظلم فيه يمنع من قيام عمرانه.
ولو كان في هذه البلاد بصيرٌ لرأى في الغنّوشي ثروة وطنيّة يحول دون دركها الحاقدون.
ولكنّهم قوم حاقدون
لا يبصرون.
ومن غلبه حقده عَمِيَ عن ثروته،
فأتلفها.