نور الدين الغيلوفي
هذه القسّام معجزة، نعم معجزة.. لا تزال بعد أكثر من 115 يوما تضرب تل أبيب بالصواريخ.
كانت أغنية تحكي الأصواتُ بها الحلمَ تحمل به الإرادة الكامنة حملَ كَرْهٍ استمرّ خمسةً وسبعين عامًا،
فصارت منجَزًا تديره السواعد تترجم ما كان في رحم الأحلام، فإذا من الإنجاز مثلُ المعجزة.
- أليس أنّه قد مضى زمن المعجزات؟ قال لي صاحبي الفيلسوف.
- ومضت المعجزات، كما قد مضى زمن النبوءات والأنبياء.
- يا أخي، قال، هذه القسّام معجزة، نعم معجزة.. لا تزال بعد أكثر من 115 يوما تضرب تل أبيب بالصواريخ رغم الدمار والخراب والتجريف والدكّ والتقتيل كما لا أظنّ أنّ البشريّة، من قبلُ، قد رأت. المعجزات لم تنقض بموت محمّد يا صاحبي. هذا الذي نرى، بحقٍّ هو معجزة مكتملة الأركان. من أين جاء هؤلاء بكلّ هذا؟
قلت:
– هوّن عليك يا فتى العقلِ ونديمَ البرهان، أوَ ليس أنّك قد نهيتني عن اعتماد المفتاح الإيمانيّ لأنّه لا يوصل غاية؟ ما لك تعرّج عليه وقد أعياك فهمُ الذي ترى؟
من حقّ الفيلسوف أن يتوقّف به العقل عند باب المعجزة وهو يرى ما يعجزه.
الحرب في شهرها الرابع، والقصف لا يتوقّف والجرّافات لا تتعب وجيش العدوّ لا يكفّ، والمقاومة لا تزال ثابتة في مواقعها تنطق بها عُقدُها القتاليّة فيسمعها العالم ويقف لها، كأنّها في جفن الردى وهو نائم، رغم أخبار العدوّ عن القضاء عليها وعن اكتشافه أنفاقَها وحدّه من قدراتها وتمكّنه من حلّ عُقدها.. لا تزال، بعد كلّ هذا الوقت، تنطلق صواريخُها باتجاه تل أبيب من مواقع يُفترَض أنّها باتت مركز ثقل عمليات جيش المحتلّ البريّة. لا تزال المقاومة ترسل صواريخها إلى مدن الاحتلال من داخل مناطق المناورات العسكرية البريّة تلك التي يُفترَض أنّ جيش العدوّ قد اكتسحها بعدما مسحها وبسط عليها كلّ سطوته بعد سطوته من الجوّ.
ترسل المقاومة صواريخها ترشق بها تل أبيب من داخل فكّ الكماشة المحكمة كما لو أنّها ظفرت بحركة تأتيها خارج المكان وتحتال بها على كلّ قوانين الطبيعة والإنسان.. وتفلت من أَسْر الزمان.
من حقّ الفيلسوف أن يرى معجزة وهو يرى ما يُعجز..
– ليست معجزة، يا أيها الفيلسوف الذكيّ، وإن هي أعجزت. أعجزت العدوّ ونحن يعجزنا ما يعجز العدوّ، لأنّ العدوّ، لدينا، هو معجزة المعجزات وقد أعيانا وأعجَزَنا حتى صرنا نرى كلّ وقوف له معجزة وفي كل واقف لا ينحني صاحب معجزة.
محمّد لم يأت بمعجزة، يا فيلسوف.. محمّد جاء بكتابٍ هو المعجزة.. وحدها المقاومة قرأت الكتاب فأحسنت القراءة وجمعت بها المعنى وأقامت المبنى، فكان منها ما ترى من معجزة. معجزة المقاومة أنّها لم تسلّم بعجزها فأعجزت.. أعجزت جيش احتلال تدعمه جيوش الأرض مجتمعة.. حتّى عجزنا نحن عن التصديق. وحين عجزنا أمام هذا الذي تجاوز كلّ أفق لانتظارنا قلنا هي معجزة.. ولا شيء غير المعجزة. ورددنا أدعيةً دعا بها أنبياء، ولمّا لم نكن أنبياء لم يكن دعاؤنا أكثر من هذيان.
أراد الغرب يتبعه العرب قهر المقاومة وتلقينها درسا لا ينساه أهلُ فلسطين كلُّهم ما بقوا إن بقوا، ولكنّهم غرقوا، مجتمعين، في أوحال غزّة المصابرة وفي شباك أعدّتها بدهاء الأرض والسماء مقاومةٌ دخلت على هذا النظام العالميّ من غير بابه. دخلت عليه من بابٍ شقّته في جدار يصل الأرض بالسماء.
المقاومة استجابت لأمر “وأعدوّا” فأعدّت واستخرجت استطاعتها الكامنة الكاملة فيها.. ورمت.. وقد أيقنت أنّها لا ترمي ولكنّ الله هو الذي يرمي.. فكان من رميها المعجزة.. رمت بذرَها فكان على الله رزقُها ومستقرّها.. واستمرّت الصواريخ تهطل على تل أبيت فتحرم الأعداء نوما عبروا البحار وركبوا الفضاء لأجله.. ذهب نوم تل أبيب.. ذهبت به المعجزة بأبعادها العسكرية والاستراتيجيّة.. وخرجت المقاومة بما رسمت من مشهد طوفانها، خرجت من مضيق المقهور إلى رحابة القاهر فقلبت معادلة اطمأنّ العقل إليها وسلّمها أمرَه.. ونام في حضنها الفيلسوف مطمئنًّا.
المعجزة في أنّ كتائب القسّام أفلتت من مضيق التسليم وتمرّدت،
فكان من تمرّها المعجزة.
المعجزة هي أن تتمرّد فتحطم بتمرّدك القيود
وتخترق الحدود
وتهدم الأسوار
وتجتاز السدود.
تلك هي المعجزة…
وكلّ من أردا فهو صاحبُ
المعجزة.