في الذكرى العاشرة لـ دستور 2014 … دستور الثورة لا يموت

عبد السلام الككلي

نظم حزب التيار الديمقراطي، الأحد 28 جانفي 2024 بمناسبة الذكرى العاشرة لصدور دستور 27 جانفي 2014، ندوة بعنوان الأزمة الدستورية في تونس صلب دستوري 2014 و2022 وأجمع المشاركون في هذه الندوة على أفضلية دستور 2014 مقارنة بدستور 2022، بعد تحليلهما وفق مقاربات سياسية وقانونية وسوسيولوجية ودعوا إلى التفكير في ما بعد دستور 2022 بعد أخذ العبر من السياقات التي حفت بمسار 25 جويلية. ودعا أمين عام التيار الديمقراطي نبيل حجي، في مداخلة عنوانها «إرادة الشعب بين دستوري 2014 و2022»، إلى صياغة دستور جديد.

إعلان صدور دستور 2014 رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب

هذه الدعوة الى صياغة دستور جديد يعوض دستور الثورة (لا يعنينا دستور 2022 فهو فاقد في نظرنا لكل مقومات الدستور باعتباره تعبيرا عن الإرادة العامة في صياغته والمصادقة عليه) كثيرا ما تأتي غامضة. فلا احد يدري على وجه الدقة ما يعيبه هؤلاء المطالبون بدستور جديد يعوض دستور 2014 عندما تعود البلاد الى مسارها الديمقراطي وهو أمر قادم لا محالة طال الدهر أم قصر.

غير أن ما يفهم من هذه الدعوة هو مسؤولية دستور 2014 عما آلت إليه الأوضاع بعد 25 جويلية 2021.

لا نعتقد أن دستور الثورة هو أفضل الدساتير في العالم ولكننا نرى انه من افصل ما يمكن آن تنتجه بلاد خارجة للتو من نظام الاستبداد بكل تسوياته وثغراته وحتى مآزقه فليس هناك أي دستور خال من العيوب والدساتير ليست قولا منزلا ولا هي وحي يوحى وإنما هي عمل بشري يحتاج الى التطوير والتحسين ولكن وفق ما ينص عليه هو نفسه فالدساتير تحتوى بالضرورة على تنصيصات دقيقة عن كيفية تعديلها بشكل لا يترك مجالا لأي تأويل. لقد احتوى دستور 2014 على عناصر هي ثورة حقيقة في الفكر السياسي العربي وفتحا لعهد جديد دون أي مبالغة أو تزيد.. فكيف ذلك ؟.

الثورة تفتح عهدا جديدا

بعد ثورة الحرية والكرامة وبإشراف الحكومة التي كان وزيرها الأول الباجي قائد السبسي جرت في تونس أوّل انتخابات حرة غير معلومة النتيجة مسبقا لانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي وقد كان أعضاؤه ينتمون الى مختلف التيارات السياسية يمينا ووسطا ويسارا ولا يملك أيّ منهم الأغلبية وسنّ هذا المجلس يوم 27 جانفي 2014 دستورا توافقيا أسس لنظام سياسي يقوم أساسا على:

  1. التعددية السياسية وهي الركن المحوري للفصل بين السلط الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
  2. مدنية الدولة فمصدر التشريع هو الشعب الذي يمارس السلطة التشريعية عبر ممثليه بالبرلمان أو عن طريق الاستفتاء.
  3. الانتخابات الحرة الشفافة والنزيهة.
  4. التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
    • أولا من خلال مسؤولية الحكومة أمام البرلمان وإمكانية التصويت ضدّها بموافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس على لائحة لوم بشرط أن تكون معلّلة وتقديم مرشح بديل لرئيس الحكومة يصادق على ترشيحه في نفس التصويت.
    • وثانيا من خلال حق رئيس الجمهورية سواء في تعيين الشخصية الأقدر من اجل تكوين الحكومة وفي الاعتراض على مشاريع القوانين المصادق عليها من المجلس التشريعي بالصيغ الكثيرة التي حددها الدستور وفي حل البرلمان دون أن ننسى حق رئيس الجمهورية في الطعن في دستورية مشاريع القوانين.

لقد قطع النظام السياسي من خلال دستور 2014 مع نظام الاستبداد والاستفراد بالسلطة وهو عامل استقرار سياسي وحكومي اذا صحبه نظام اقتراع بالأغلبية وهو شبيه بالنظم السياسية التي اتبعتها دول كثيرة بعد أن تخلّصت من الدكتاتورية وهي الآن اقتصاديا في مقدّمة الدول ونذكر منها إيطاليا التي اختارته بعد أن تخلّصت من الفاشية ومن دكتاتورية موسوليني وحافظت عليه وأدخلت تعديلات على قانونها الانتخابي سعيا للاستقرار الحكومي ونذكر أيضا إسبانيا التي اختارته بعد أن تخلّصت من دكتاتورية فرانكو واليابان بعد أن تخلّص من ديكتاتورية الإمبراطور وألمانيا بعد أن تخلّصت من النازية ومن هتلر والبرتغال بعد أن تخلّصت من دكتاتورية «سالازار».

لقد أدخلت هذه الأنظمة تحسينات على هذا النظام بما يعرف بالنظام البرلماني المعقلن الذّي يوفّر الوسائل الدستورية والقانونية لغاية التوقّي من عدم استقرار الحكومي ويضمن لمؤسسات الدولة سيرها العادي بتدعيم موقف الحكومة تجاه البرلمان فلا يسحب الثقة منها كيفما يشاء بل طبق شروط خاصة تتمثّل في تحديد الآجال و وضبط الإجراءات واشتراط أغلبية معزّزة وتقديم مرشّح بديل لرئاسة الحكومة ففي ألمانيا يشترط لسحب الثقة من الحكومة أوّلا تقديم لائحة لوم بنّاءة وثانيا القدرة على تكوين أغلبية جديدة منسجمة قادرة على العمل الحكومي.

ونذكر من بين هذه الدول فرنسا التي لم تتخلّ عن هذا النظام في دستور جمهوريتها الخامسة وأدخلت عليه تعديلات تعزّز صلاحيات رئيس الجمهورية مثل اتخاذ التدابير الاستثنائية لصد الخطر الداهم ومثل صلاحية تعيين الوزير الأوّل وتعين بقية أعضاء الحكومة باقتراح من الوزير الأوّل لكن حافظت على مسئولية الحكومة أمام البرلمان.

«نعيب دستورنا والعيب فينا»

إن القول بان دستور 2014 هو المسئول الوحيد عن كل أزماتنا أو الإيحاء بذلك أمر غير صحيح وقول مضلل ومخادع فلا شك أن المسؤولية تقع على كثير من الجهات منها ضعف المنظومة الحزبية في تونس وفسادها وهيمنة عقلية الغنيمة عليها كما ميراث الزعامة الفردية الذي يحولها في كثير من الأحيان الى ملكية خاصة وفساد الطبقة السياسية في ظل قضاء تابع يمكنها من الإفلات من العقاب ومجلس نواب غارق في صراعات الكتل البرلمانية في ظل نظام داخلي لا يحفظ النظام صلبه وتوسع في منح الحصانة للنواب مما حول المجلس إلى مكان يختبئ فيه المجرمون والخارجون على القانون وغياب المحكمة الدستورية بوأدها والتي كان من المفروض أن تفصل في كل تنازع على السلطة في نظام تتقاسم فيه ثلاث جهات الحكم وهي السلطة التنفيذية برأسيها والسلطة التشريعية وهو نظام يمكن أن ينشا عنه (وهو أمر طبيعي ولا مناص منه وموجود في كل الأنظمة المشابهة) التباس وغموض.

بالإضافة إلى كل ذلك لدينا سلطة قضائية تحوم حولها شبهات فساد تقدم القضاة المشبوهين وتمنحهم سلطة الإحالة والحكم بحسب ما يخدم السلطة الحاكمة وزراء ونوابا ورجال أعمال متورطون مع السياسيين في عمليات مشبوهة كثيرا ما أشارت إليها تقارير هيئة مكافحة الفساد وبلاغات وإشعارت منظمات المجتمع المدني المتخصصة في موضوع النزاهة والشفافية في النشاط العمومي خاصة بل أشار إليها بعض النواب كما تحمي القضاة الفاسدين. وجو اجتماعي محتقن سادته القطاعية والمطالب المجحفة التي ابتزت الدولة الضعيفة مع الإضرابات العشوائية والاعتصامات التي واجهتها الدولة بيد مرتعشة رغم أنها أوقفت عجلة الإنتاج في عديد القطاعات لاسيما الحيوية منها مثل الفسفاط والبترول وكلفت الدولة خسارة آلاف من المليارات كانت في حاجة إليها في ظل متاعب اقتصادية هيكلية خطيرة ومتراكمة دفعت الدولة الى مزيد الاقتراض الخارجي والى توريد مواد كانت تونس تصدرها مثل الفسفاط والأمونيتر المستعمل في الفلاحة.

انضاف إلى كل ذلك في الفترة الأخيرة قبل 25 جويلية 2021 شلل عمل الحكومة جراء التعطيل الذي مارسه رئيس الجمهورية على عملها لاسيما منذ جانفي 2021 عندما رفض التحوير الوزاري وقبول الوزراء الذين احرزوا ثقة البرلمان ورفض أن يؤدوا اليمين الدستورية أمامه ورفض تسميتهم واضطر رئيس الحكومة إلى إسناد الوزارات الشاغرة الى وزراء مباشرين فأصبح جلّ الوزراء يسيّرون وزارة أصالة ووزارة بالنيابة. كان قيس سعيد مسئولا هو الآخر عن تعطل سير دواليب الدولة وقد عبّر عن هذا الرأي الأستاذ عياض بن عاشور في مداخلة له في إذاعة موزاييك الذي أشار أيضا الى رفض رئيس الجمهورية ختم القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية واستخلص أن ما قام به رئيس الجمهورية مخالف للدستور وأضاف «ويبدو انه كان يخطط لتوقيف الدستور والانقلاب عليه» في إشارة الى قرارات رئيس الجمهورية يوم 25 جويلية 2021 والتي اعتبرها الأستاذ عياض بن عاشور مخالفة للدستور بسبب عدم توفر شروط تطبيق الفصل 80 منه.

لقد أعطت هذه القرارات مزيدا من الذرائع للانقضاض على النظام السياسي الذي جاء به دستور 2014 وهو ككل الدساتير في حاجة الى التعديل ولكن بعد استكمال المؤسسات المنصوص عليها به والغاية من التعديل هي أساسا مزيد توضيح العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية من جهة وبين السلطة التنفيذية والتشريعية من جهة أخرى وقد نكون في حاجة أيضا إلى مراجعة بعض الفصول التي أثارت مشاكل مثل الفصل 89 على وجه المثال لا الحصر في صلة بمنح الثقة للوزراء من المجلس من اجل إعطاء مزيد من الحرية لرئيس الحكومة للتحرك خارج الضغط المسلط عليه باستمرار من البرلمان.

قد نكون في حاجة أيضا وبشكل أساسي إلى تعديل القانون الانتخابي من اجل تجاوز التشتت الذي عرفه المجلس النيابي منذ انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 2011 ويمكن في هذا الصدد مراجعة النظام الانتخابي لضمان أغلبية متناسقة والأخذ بالاقتراح الذي قدمه المختصون مثل المحافظة على نظام النسبية، مع تعديله عبر وضع نظام لتنفيل الأغلبية بنسبة يتم الاتفاق حولها (15 أو 20 أو 25 بالمائة)، إلى جانب اعتماد عتبة بين 5 أو 7 بالمائة.

لا احد قال إن دستور 2014 دستور مثالي ولكن من العبث أن نضع على ظهره جميع عيوبنا كما يضع البعض كل عيوبهم على الدهر كما قال الإمام الشافعي:

نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا وما لزماننا عيب سوانا

وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا

وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا

قد يحسب البعض انهم طووا الى الأبد دستور الثورة. ولكنه على عكس ما يعتقدون لا يزال حيا في العقول والنفوس النيرة، يتنفس تحت الرماد وسيخرج يوما من أنقاضه حينها سنرى ما يجب أن يبقى فيه وما يجب أن يزول وفقا لما يقرره هو نفسه من إجراءات لتعديله واذا تعذر ذلك فوفق ما يقرره مجلس تشريعي منتخب بشكل حر نزيه وشفاف ولكن متى فهمنا أن الدساتير تصنعها الشعوب وتحميها لتبقى وتتطور ولا تصنعها الإرادات الفردية المستبدة تزول بزوال أصحابها.

Exit mobile version