نصر الدين السويلمي
العباسي.. هل يخذل الحقّ ولا ينصر الباطل؟
يبدو أنّ مروان العباسي محافظ البنك المركزي على وشك المغادرة حتى لا يدخل في صدام مع قيس سعيّد، فالرجل سبق ورفض مشروع القانون الذي تقدّم به سعيّد قبل أشهر، ويقضي بالسماح للبنك المركزي بتمويل الميزانيّة. وحول هذا الطّرح قال العبّاسي “شراء سندات خزانة لها مخاطر حقيقيّة على الاقتصاد، بما في ذلك مزيد من الضّغط على السيولة وارتفاع التّضخّم وانخفاض قيمة العملة التّونسيّة.. التّمويل المباشر للميزانيّة من قبل البنك المركزي سيرفع التّضخّم بشكل لا يمكن السّيطرة عليه، وقد يصل إلى ثلاثة أرقام، وذلك قد يقود إلى تكرار السيناريو الفنزويلي في تونس”.
المتابع للأحداث سيصل إلى استنتاج قد يرتقي إلى حقيقة الصّورة، وهو أنّ اتفاقا غير معلن تمّ بين العبّاسي وسعيّد، يقضي باكتفاء العبّاسي بدورة واحدة “محافظ”، تنتهي في شهر فيفري المقبل، مقابل تأجيل سعيّد لإجراءاته حتى ينصرف العبّاسي وإلى حين تنصيب محافظ قيس سعيّد. ولربما بايع العباسي كما بايع من قبله بوعسكر والطبوبي وكشو وبن عياد..
إذا وبعد سيطرته على كلّ السلطات وإخضاعه لكلّ الهيئات والجمعيّات، قرّر قيس سعيّد السّيطرة على المؤسّسة النّقديّة الوطنيّة الأكبر في البلاد. وبفقدان البنك المركزي استقلاليته وانتقاله إلى حزمة السلطات التي جمعها سعيّد، ستشهد البلاد في المدى القصير إنتعاشة ماليّة مسمومة قاتلة وملغمة “على مستوى ترقيع الميزانيّة”، تشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة أو التّسونامي المدمّر، ثمّ تنهار البلاد وتنتهي تجربة دراماتيكيّة لم تشهدها تونس عبر تاريخها.
لا شكّ أنّ التّعامل السّاذج السّطحي مع المؤسسات هو أسرع الطّرق نحو الانهيار الشّامل، ولا شكّ أنّ العقليّة الجاهلة بميكانيزمات الدولة هي التي تدفع صاحبها للبحث عن الحلّ من خارج رفوف الحلول، فما يريد سعيّد فعله بالبنك المركزي كذلك الذي ادّعى الطّبّ فقدم إليه مريض يعاني من فقر الدّم وضعف الدّورة الدّمويّة، وبدل البحث في مشكلة الأنيميا ونقص الحديد واعتماد المكمّلات الغذائيّة، والذّهاب إلى الغدد والمبيض والرّحم للبحث في ضعف الدّورة الدّمويّة، قرّر الطّبيب المنتحل الذّهاب إلى القلب والضّغط عليه بالأدوية والجراحة لإجباره على مضاعفة الضّخّ حتى تقوى الدّورة الدّمويّة، ويتحوّل المريض من فقر الدم إلى غنى الدّم. والأكيد أنّ المهزلة لا يتحمّلها الطّبيب المنتحل فقط، وإنّما يتحمّلها كلّ من ساهم في التمكين للطبيب المنتحل وكلّ من شاهد العبث بأبجديّات الطّبّ وظلّ صامتا محايدا، عندها لا فرق بين الشّيطان الأخرس والشّيطان الوسواس.
حين تصادر آخر القلاع الاقتصاديّة المتماسكة، وتستعمل بطريقة عشوائيّة مزاجيّة مشوّشة، سيتوقّف العبث بشكل آلي بعد أن يكون قد أتى على كلّ ما يمكن العبث به، عندها سننتقل من معايشة عمليّات التّخريب إلى معاينة ركام الخراب.
إنّها دورة أخرى من دورات التّجارب اللجانيّة القاتلة، بعد أن تحوّل الوطن إلى مخبر في خدمة شخص واحد، يجنّد ترسانة من الرّوبوتات التي تعمل بوقود الانتهازيّة والجشع والكراهية. لقد حلم سعيّد بالتّعويل على أموال الأحزاب التي تخزّنها بالمليارات فلم يجدها، ثمّ حلم بالتّعويل على الأموال المهرّبة من عهد بن علي فلم يحصّلها، ثمّ عوّل على أموال الصّلح الجزائي، فتفطّن إلى أنّه جنّح وبالغ حتى انتقل بمؤسّسات الدّولة إلى شرطة جباية ترهب رأس المال، تبتزّه وتخيّره بين دفع نسبة مهمّة من ثروته أو الإفلاس والسّجن.
جرّب سعيّد الكثير من الحلول التي اعتقد أنّها ميزاب ثروة، ثمّ ولمّا انتهت كلّ المحاولات إلى البوار تلفّت فلم يجد مؤسّسة واقفة متماسكة غير البنك المركزي، هناك قرّر أن يقتاد المركزي المسكين إلى مخبره “laboratoire” لتفكيكه بقوّة الدّولة.. تلك هي الدّولة حين تمضغ أعضاءها.