أبو يعرب المرزوقي
ضميمة خامسة وأخيرة: شروط استعادة الأمة وزنها العالمي
ما معنى استعادة أمة من الأمم وزنها العالمي إذا كان لها دورا في تاريخها جعلها تكون قد مارست دورا عالميا لقرون جعلها تكون ذات سلطان كوني وصارت بسبب ما آل إليه أمرها بعد هزيمة تاريخية كبرى -هي نتيجة حروب الاسترداد الغربية- تتردى شروط بقائها في لحظة طويلة من تاريخها مثلت انحطاطا ما تزال تعاني منه لكنها لم تفقد شروط الاستئناف لأنها حافظت على الأقل بالقوة على شروطه. فيكون المشكل هو كيف يمكنها أن تنقل القوة إلى الفعل وهو ما يتطلب علاج ما جعلها تنهزم أولا وتنحط ثانيا لأن الأمرين متلازمان.
ولأحصي ما هو في آن من علامات الهزيمة ومن علامات الانحطاط في تاريخ مثل هذه الأمة والحضارة. وهي تنقسم إلى العناصر التالية:
1. الشروط الخارجية أي المستمدة من الطبيعة والتاريخ
وهو ما يقتضي استرداد أعادة بناء المعادلة الوجودية التي بفضلها تكون الأمم قادرة على الدور التاريخي الكوني أي وحدة أحياز وجودها الخمسة أي المكان والزمان والثروة والتراث وأصلها المرجعية الروحية:
استعادة سر انتصار الإسلام في نشأته الأولى. فما فقدته الأمة فغلبت وانحطت ليس حصيلة التفتيت الاستعماري فحسب وهو من أعراضه التي عطلت وفاعليتها إنها انحطت إلى إحياء الصراع العرقي والطائفي خاصة.
2. الشروط الداخلية أي المستمدة من البدن والروح
استرداد حرية الإرادة والقوة العضوية: المقومات الخمسة للمناعة البدنية وهي تناظر الأحياز والحصانة الروحية وهي تناظر شروط ثمراتها رعاية وحماية أي استرداد رجاحة الحكمة: نظرية المسؤولية الفردية وعلاقتها بشرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
مسألة تتعالى على ما يعود إلى العصبيات الأربعة: القبلية وارتزاق الموالي والقومية والطائفية فهي التي أفقدت الأمة سر الكونية الإنسانية التي جعلت دولة الإسلام مبنية على الأخوة البشرية (النساء 1) وعلى المساواة بين البشر لأن التعدد هو شرط التعارف معرفة ومعروفا ولا تفاضل بينهم عند الله إلا بالتقوى (الحجرات 13). ومن ثم فالمعمورة كلها دولة واحدة هي دولة الإسلام على الأقل كغاية للتاريخ الإنساني.
3. معنى الاستردادين الأولين والثانيين أي رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس
الوحدة التي يشرئب إليها الفرد هي الآيات الكونية أي تأثير المكان وتأثير الزمان وتأثير الكيان العضوي وتأثير الكيان الروحي وما يترتب على رؤية هذا التناغم بين عناصر المعادلة مشدودا إلى مبدأ واحد هو تبين حقيقة القرآن أي وحدانية الرسالة الخاتمة
4. كيف يتحقق الاستردادان
أي ما الإستراتيجيا السياسية التي حددها القرآن الكريم وقدمت منها عينة السنة النبوية في السعي الفعلي لتوحيد البشرية وهي كونية وواحدة حتى لو تغير شعارها من حيث الصوغ: شعار الفتح الثاني باصطلاح أوضح لشعاره الأول: جئنا لنحرركم من عبادة العباد بعبادة رب العباد.
5. أخيرا بناء الفدرالية الإسلامية
أي الدولة الكونية التي تتأسس على منطق مستويي السياسة من حيث هي فرض عين أصلا للشرعية وفرض كفاية أصلا للقوامة الخاضعة لأصل الشرعية الشورى 38.
ولن أطيل الكلام في هذه المسائل كلها لأني خصصت لها ما يكفي من المحاولات السابقة مدارها كله تحديد شروط القيام التاريخي الفعلي الذي يشترط مقومات الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها بالحجم المناسب لما عليه قوى العالم لأن السياسة هي بالجوهر عالمية وهي تخضع لمنطق شبيه جدا بمنطق طبقات الأرض وتحركاتها في الزلازل التكتونيك بحيث إن التكتونيك الجيواستراتيجي يحدد علاقات الأمم والحضارات والدول مثلما يحدد تكتونيك الأرض علاقات توزيع اليابسة في ما بينها وفي ما بينها وبين البحار.
سأكتفي إذن ببيان ما عليه وضع العرب في العالم وما يعلل ضعفهم الذي هو سر قوة أعدائهم بصورة تبين أن كل ما يجري من حولهم لا يحركهم لأنهم نكصوا إلى وضعية اشبه بما كانوا عليه قبل الإسلام: قبائل تتناحر بعضها صار عبيدا لفارس (المنذرة) وبعضها صار عبيدا لبيزنطه (الغساسنة) وهم في حروب دائمة على توافه الأمور فكانوا شعبا مغمور.
فإني أعلم أن الأنظمة العربية سواء التي في المشرق أو ا لتي في المغرب لا يعول عليها حتى في أدنى مساندة لتطبيق القانون الدولي لمنع الشروط الخمسة للقيام العضوي للبشر في غزة: الهواء والماء والغذاء والدواء ومن ثم فقدان شروط المناعة العضوية للإنسان والحيوان في غزة رغم أن ذلك لا يحتاج للحرب.
وأعلم كذلك أن تدخلهم للحرب لو حصل لأزال أهم إنجاز حققه الطوفان لأن تدخلهم مع العجز المعلوم سيمكن إسرائيل من النصر السريع لأنهم أولا لم يعملوا بالأنفال 60 فيكون تدخلهم ذريعة لاستعادة إسرائيل كل سردياتها: شعب الهولوكوست المزعوم يهاجمه 400 مليون من الوحوش رغم أن حكامهم جبناء وجيوشهم نعاج.
واعلم كذلك أن تدخلهم لو حصل لكان أخطر من ذلك. فهم سيضفون الشرعية على كل ما فعلته إسرائيل إلى حد الآن لما تستطيع ادعاءه بأنها معرضة للإفناء فتصبح حجة الدفاع عن النفس تبدو وجيهة رغم أن تاريخ حروبهم بين أنهم اعجز من حماس التي قد تفقد بذلك الثمرة: ربح الحرب والرأي العام رغم الكلفة والتضحيات البشرية.
لذلك سأقترح أمرا جربوه لما حاصروا قطر -الأربعة الذين فعلوها- بأن يحاصروا إسرائيل بنفس القواعد التي طبقوها ضد قطر أي منع طيرانها من أجوائهم ومنع التعامل معها في كل ما منعوه عن قطر من التعاملات كلها. وهذا لن يكلفهم شيء لأن ذلك لن يقتضي قطع العلاقات مثل ما فعل الغرب مع روسيا في أكرانيا أو فليفعلوا ما فعلت أمريكا في إمداد برلين لما حاصرها السوفيات من الجو تطبيقا لقرارات الأمم المتحدة في منع فناء الشعب في غزة بإفقادها عناصر القيام العضوي التي ذكرتها أي الهواء (الأكسيجين للمرض وضحايا الحرب) والماء والغذاء والدواء أي شروط المناعة العضوية للجميع ولكن خاصة للأطفال.
وقد رأيت في أول زيارة لي إلى ألمانيا سنة 64 كيف أن برلين بقيت محاصرة لكنها كانت أمريكا والغرب يسد لها كل حاجاتها بفرض المدد جوا وبرا دون أن يؤدي ذلك إلى حرب بينها وبين السوفيات لأن التدخل كان سلميا لم يكن حربيا. سيقال لكن العرب ليست لهم قوة أمريكا. فما فائدة التطبيع إذن؟
مقترحي الأخير: إذا عجزوا تلك المقترحات السابقة يصبح الخطاب موجها لشعوبهم. إذا كانت الأنظمة وشوكتها بهذا الوهاء فكيف تستطيعون منع نخبكم وشعوبكم من أن يكونوا على الأقل مثل نخب الغرب وشعوبه قدرة على التضامن مع أهل غزة؟ هل دور جيوشكم هي قمعهم ومنعهم من دورهم الإسلامي والإنساني.
وختاما هل أنتم أسود ضد شعوبكم ونعاج أما إسرائيل وإيران أم انتم كما فضحكم الإسرائيليون والإيرانيون مجرد غفراء في محميات بعضها خاضعة للملالي وبعضها للحاخامات: اسود على شعوبكم ونعاج أمام قوتين كلتاهما تستمد سلطانها من عدم وطينتكم وتقديمكم لكراسيكم على شعوبكم لفرط فسادكم وتخاذلكم؟
وأكتفي ببيان أمرين أولهما يعني أنكم صم بكم وعمي لا تعقلون: فكل تضحيات الفلسطينيين سيكون خراجها لمليشيات إيران التي تناوش إسرائيل حتى تعطيها أمريكا ثمرة الانتصار الذي دفع كلفته من دماء شعب غزة وشعب الضفة وهم سيكونوا قد انتصروا على إسرائيل بدماء وأموال عربية لعدم وعيكم بالثاني.
أما إذا لا قدر ربحت إسرائيل الحرب لأنها تتلقى المدد من الغرب ومنكم ولأن حماس محاصرة منكما فإن ما حصل في غزة سيحصل في أراضيكم التي ضمنها ناتنياهو في خارطة إسرائيل الكبرى وتكلم عليها في الأمم المتحدة جهارا نهار. فتكون نعاجا تنتظري نفس ما حل بغزة وسيكون أشد وأسرع كما حصل سابقا.
ولا بد هنا من الجواب عن سؤال سكوت الأنظمة العربية على هذه الوضعية المأساوية لأني لا يمكن أن أصدق أنهم يجهلون ما ذكرت به في هذه الخاتمة. فما السر يا ترى؟ إنه سر مخمس الأبعاد: طبيعة الثروة مضاعفة: ما تنتجه الطبيعة ومآل ثمرته وطبيعة التراث ما ينتجه الإنسان ومآل ثمرته ثم أصلهما فأغلب ما تنتجه الطبيعة طبيعي وهو الغاز والبترول وأغلب ثمرته تذهب إما في التبذير أو في الصناديق السيادية. وكلاهما يفيدان الحامي أكثر من المحمي بسبب حاجته للحماية ضد إرادة شعبه ومصالحه الحقيقية أي شروط الرعاية والحماية الذاتية.
وشروط الرعاية والحماية الذاتية كما بين ابن خلدون هي المحددة لكل شروط الاستغناء عن حماة من خارج الجماعة وهما إرادتها الحرة واستراتيجيتها ذات الحكمة الراجحة أي التي تعمل بالأنفال 60 التي تحدد طبيعة الأعداء والقدرة على ردعهم برعاية نفسها وحمايتها ذاتيا.
الإرادة الحرة والحكمة الراجحة هما اللتان تتحددان في تناسب مع شروط القوة الفعلية للجماعات أي الشرط الجغرافي والشرط التاريخي ثمرة الشرط الأول الثورة وثمرة الشرط الثاني التراث لكن أصلها هو الحجم الديموغرافي المناسب للعصر والممكن من تحقيق شروط إنتاج الثروة والتراث دون حماية أجنبية.
وفي حالة انعدام هذا الأصل تصبح الحاجة للحماية الأجنبية حتمية فيصبح هو صاحب الثروة الطبيعية وصاحب مآلها ويصبح المحمي مجرد عامل لديه لأنه مضطر لجعله المتصرف الفعلي في ثروته وتراثه وهو مجرد حارس عنده وليس صاحب سيادة فعلية: لأنه إذا غضب عليه يمكن أن يجمد صناديقه واستثماراته عنده.
فإذا كان الغرب قد استطاع أن يفعل ذلك مع روسيا وقوة عظمى فكيف لا يستطيعه مع أقطار ليس أوهى من قدرتها على رعاية نفسها وعلى حمايتها بسبب كونها عزلاء وما بينها من عداوات مقدمة على التصدي للأعداء الفعليين من حوله: يعني نكوص العرب إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام حروب داحس والغبراء؟
ولا فرق في ذلك بين المشرق والمغرب: فما حدث بين العراق وسوريا البعثيتين وما يحدث بين قطر والحلف الذي حاصرها وما يحدث بين الجزائر والمغرب وبين تونس وليبيا القذافي وبين سوريا ولبنان وبين جماعة الخليج واليمن وحتى بين مصر والسودان كل ذلك يجعل العرب فتات أي “ذبابة” ستطيع هزيمتهم.
ولما كان للحامي قواعد في كل قطر عربي فإنه يستطيع أن يفعل أكثر من الاستحواذ على ثروات الطبيعة وعلى مردودها إذ هو يمكن أن يخلع أي حاكم وأن يعوضه بمن يكون أكثر خضوعا لسلطانه إذا لم يحقق له ما يريد طوعا فيفرضه عليه كرها ولا حامي له من شعبه لأن شعبه فقد كل إرادة حرة وحكمة راجحة.
وما أظن أحدا يمكن ان يطالبني بالدليل على هذه المعطيات. وما أظن أحدا يشك في دورها: فإذا كانت حماس قد ركعت جيش إسرائيل لما يقرب من أربعة أشهر فكيف يمكن أن نفهم انتصار إسرائيل في اقل من أسبوع على كل الجيوش المزعومة عربية لولا الخيانة السياسية وحصر دورها في قمع الشعوب لا في حمايتها.
أظن الآن أنه لم يعد لي حاجة لمزيد التوضيح بخصوص سر ضعف العرب وقوة إسرائيل وإيران. فهما كلاهما يستمدان قوتهما من ضعف العرب الذي وصفت وهو ليس ضعفا في الإنسان العربي بل في ما وصفه ابن خلدون من علل الرد أسفل سافلين في تربية الإنسان وحكمه بصورة تفقده حرية الإرادة ورجاحة الحكمة.
انتهى
موازنة بين استراتيجية الفتح وطوفان الأقصى (01)
في المرافعتين
المدعي: جنوب إفريقيا
المدعى عليه: إسرائيل
موازنة بين استراتيجية الفتح وطوفان الأقصى (02)
هشاشة الأنظمة العربية
موازنة بين استراتيجية الفتح وطوفان الأقصى (03)
هشاشة إسرائيل
موازنة بين استراتيجية الفتح وطوفان الأقصى (04)
في هشاشة الديموقراطية الغربية
موازنة بين استراتيجية الفتح وطوفان الأقصى (05)
شروط استعادة الأمة وزنها العالمي