نور الدين العلوي
هناك ما يشبه فوضى التصريحات حول مستقبل الشرق الأوسط بعد حرب الطوفان، وقد صدرت تصريحات متناقضة من جهات كثيرة بما يكشف العجز عن اتخاذ قرار واضح بخصوص المستقبل القريب والحرب لا تزال تدور رحاها على الفلسطيني المنتصر رغم الألم. هل يملك طرف واحد القدرة على إنهاء الصراع؟ أم أن أطرافا كثيرة تود له أن يتسع ليحقق مكاسب لا تبدو لمن يراقب الوضع غير واضحة بحيث يجزم برأي نهائي حول المستقبل؟ والسؤال الخفي من خلف كل الأسئلة: هل من مصلحة المقاومة أن يتسع الصراع؟
الأمريكي والصهيوني حائران
لا يخفي الأمريكي سعيه إلى إنهاء الصراع بشروطه، أي أن يخرج منتصرا ويحفظ وجود حليفه المحلي من اندثار بات وشيكا أو ممكنا، لكن المعطيات على الأرض لا تخدم رغبته، لذلك يقدم إعلانات سلمية للمنطقة ولحلفاء ثانويين هم بلدان خط التطبيع العربي (ولم يبق نظام عربي خارج هذا الخط في الواقع)، في ذات الوقت يرفد حليفه بذخيرة كافية لحرب طويلة، وقد دعمته في ذلك دون حساب بلدان غربية. بين الرغبة المعلنة والدعم الوافر تتضح حيرته، فالنصر الكامل على المقاومة وأنصارها في كل مكان صار مكلفا عسكريا وسياسيا، وإذا كان قادرا على الكلفة العسكرية فإن الكلفة السياسية تفوق الاحتمال.
إدارة بايدن ذاهبة إلى خسارة انتخابية قريبة، والخسارة الأكبر من خسارة حزبية (داخلية) هي أن خط التطبيع العربي الذي أُنفقت فيه جهود وأموال كثيرة وعلى فترة طويلة جدا (مكسب استراتيجي) يوشك أن ينكسر انكسارا غير قابل للجبر، والحلفاء الذين تم اصطناعهم بالوعد والوعيد يرون الحريق يقترب من غرف نومهم ولا أحد قادر فعلا على توقع شرارة أولى تنطلق من مكان ما، وكل يوم في غزة المجاهدة يقرب هذه الشرارة من جلابيب الجميع.
حيرة الأمريكي تزداد حدة عندما يجد حليفه يخسر على الأرض ويغرق، وكيانه يتمزق من الداخل ولا يمكنه أن يفرض عليه حلولا تنقذه من نفسه. كيف ينتصر الأمريكي وينهي الصراع على كيفه؟ الأكيد البيّن أن هذه الحرب مما لم يعتد عليها ولم يفلح في قراءة مآلاتها، ولا نظنه إلا يتذكر انسحابه مدحورا من أفغانستان بعد طول عناء ومكابدة.
حزام التطبيع انهزم مرتين
أعني بحزام التطبيع كل الأنظمة العربية حتى التي فصلتها الجغرافيا عن فلسطين المحتلة مثل المغرب. وهم مطبعون بدرجات في انتظار التطبيع الكامل الذي يراودهم عليه الكيان ليحفظ عروشهم، أو يهددهم بألف مؤامرة من داخل قصورهم وهم أدرى بهوانهم وضعفهم.
هذا الحزام كان يمنّي النفس بسلام دائم مع الكيان على حساب الحق الفلسطيني لينتقل إلى مرحلة التمتع بالسلطة، لكن حرب الطوفان أفسدت عليهم أمرهم فانقطع ما كانوا يؤمّلون وهذه الهزيمة الأولى، وهم يستيقنون مع كل يوم من أيام غزة أنهم يبتعدون عن أحلامهم وهذه الهزيمة الثانية.
هذا الحزام يرغب قبل غيره في إيقاف الحرب وحفظ كيان العدو، وهو يرى تردد الأمريكي وينصح له بالاستعجال لكنه لا يتنبه إلى أنه لم يكن أبدا فاعلا بل مفعولا به. لكن الفاعل هذه المرة هو المقاوم الفلسطيني، إذ يضرب العدو في مقتل فينهزم حزام التطبيع وإن لم يطلق رصاصة.
سقط مشروع صفقة القرن الذي كان سيضمن لدول الطوق أولا ثم بقية مكونات الحزام فترة سلام طويلة، وسقط طريق الحرير الثاني أو طريق قناة بن غريون، وظهر احتمال غزة المستقلة كلقمة في زورهم ولن يفلحوا في بلعها ولو شربوا عليها خمور الأرض. ماذا سيبقي لهم وهم يعرضون التطبيع مع كيان لم يعد يملك ركبتين للوقوف عليهما؟ إنهم يرون شعوبهم تتربص بهم ولو لم يُسمع صوتها لفرط القمع، إننا نرى اليقين الأقرب إلى قلوبهم الواجفة بأنهم منهزمون في غزة التي يحاصرون ويشنون عليها حرب الجوع والعطش، وهذه وحدها كافية لتنتقم منهم شعوبهم المغلولة. يخاف الأمريكي على وجودهم، فهم استثمار سابق وغير مكلف، لكنهم لم يعودوا أولوية وستترفع كلفتهم على حاميهم، ووحده القمع العاري لشعوبهم هو ما بقي لهم، وهذا سلاح يرتد على مطلقه ولو بعد حين.
جبهة الممانعة تخفى خطتها
وهذا من حسن ظننا بها ولكننا لا نظفر بيقين حول مشروعها، فالتوجه إلى مناوشة في باكستان ظهر لنا بمثابة ضربة في الماء، فغزة والأرض المحتلة (الجولان خاصة) في الاتجاه المعاكس جغرافيا، وستظل تلك المناورة غير مفهومة حتى نعثر على مفسرين أعلم من ابن سيرين وسيغموند فرويد.
يحقق اليمني مكاسب للفلسطيني المقاوم، إنه يزعج العدو لكنه لا يعطل مشروعه الحربي. وظهر لنا حزب الله أعقل مما كنا نأمل أو نتوقع، بما يكشف أن له أجندته الخاصة التي وإن أعانت الفلسطيني إلا أنها لم تقلب المعركة لصالحه، لذلك نجد جبهة الممانعة متحفظة (وهو تعبير نفضله على القول إنها تستثمر لغير صالح الفلسطيني)، وهذه الأجندة هي أجندة إيرانية خالصة وإن تخفت وراء فلسطين.
هل ترغب إيران في إدامة الحرب لتجر الأمريكي بطريقتها “الشطرنجية” لاستنزاف طويل؟ هذا محتمل، ولكن هل يملك الفلسطيني رفاه إدامة الحرب ليكون في حرب استنزاف غير معلومة النهاية وقد قطع عنه المدد؟ قرأنا لكثيرين مما يرون أنفسهم في الممانعة أن كل ما يجري مرتب مع المقاومة في الداخل، لكننا لم نسلم بذلك ربما لأننا لا نفهم في الشطرنج، وسنظل ننظر بعين فاحصة لاختلاف الأجندات فقد كثرت فيها عبارة “الرد في الوقت والمكان المناسبين”.
الثمن البشري قاس جدا في غزة، والمقاومة رغم الضربات الموجعة التي تُكبدها للعدو في حاجة إلى مناورة عبقرية تكمل النصر العسكري ولا تكون فيها هزيمة، لكنها في وضع الجالس على صدر عدوه إذا قام عنه غدر به وهي طبيعته، لذلك لم يبق لها إلا إدامة المعركة وانتظار صريخ العدو. هي الآن في أمسِّ الحاجة إلى وحدة الساحات وهذا أمر لا تحكمه.
يبقى لنا توقع أن من صمد أربعة أشهر يمكنه انتظار صرخة العدو الأخيرة، ونظنها باتت قريبة.
عربي21